الأربعاء، 13 أكتوبر 2010

الانتخابات.. رؤية شرعية


الانتخابات.. رؤية شرعية (1)
بقلم: أ. د/ عبد الرحمن البر..
 * أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر- وعضو مكتب الإرشاد
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
 ونصلي ونسلم على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، المبعوث رحمةً للعالمين، المبلغ للرسالة، المؤدي للأمانة، والمبيِّن للناس طريق الحق من طريق الغواية، وبعد..
 تمثل الانتخابات بشكلها المعاصر إحدى القضايا التي تُفرز أسئلة وإشكاليات فقهية عديدة، بدءًا من شرعية هذه العملية، والاختلاف الفقهي حولها؛ إذ يرى بعض المعاصرين أنها ليست مشروعة باعتبارها صنيعةً من صنائع غير المسلمين، ليس لها مثيل في العصور الأولى في الإسلام؛ ومن ثم ينظرون إليها على أنها بدعة منكرة، بينما يرى السواد الأعظم من العلماء غير ذلك.
 كذلك علاقة الانتخابات بالشهادة، وحكم الإدلاء بالصوت، ولمن يكون، وحكم المقاطعة لهذه الانتخابات إن كان البعض يرون أنها لعبة سياسية لا جدوى منها، وكذلك مسألة تغليب العصبية للقريب أو ابن البلد أو غيره على المصلحة العامة، وكذلك مسألة شراء الأصوات لضمان النجاح، وما الذي يفعله المرشح النزيه إن وجد خصمًا يلجأ إلى تلك الحيلة، وهل يحل له أو يحق له عندئذ أن يفعل ما يفعل خصومه حتى يدرأ المفسدة عن الأمة والشعب، وما علاقة ذلك كله بفقه الرشوة المحرم، وكذلك مسألة المرأة وعملية الانتخاب، هل لها أن تدلي بصوتها؟ أو أن تتقدم بالترشح نيابةً عن الأمة، باعتبارها فردًا من أفراد الشعب، أو ذلك مما يضرُّ بها، ويجعل الأمر غير جائز من الناحية الشرعية؟! 
وأيضًا في مجال الدعاية الانتخابية، تبرز أسئلة متعددة في آداب هذه الدعاية، وحكم استغلال الدين كأحد العوامل التي تسهم في كسب الرأي العام؛ باعتبار أن الدين له مكانة عظيمة في نفوس الناس في دولنا العربية والإسلامية، وكذلك الذين يتخذون هذا الدين ونصوص الشريعة تكأة يضمنون بها أصوات الناخبين، ويكثرون من الاستشهاد بالقرآن، مع أنه لا علاقة لهم بالمصحف ولا بالقرآن، وكذلك أموال هذه الدعاية، وكون ذلك من باب التبرعات، أو تتبنَّى بعض الهيئات الحكومية أو الأهلية تأييد مرشح معين، وغير ذلك من الإشكاليات الفقهية الكثيرة، التي تعترض العملية الانتخابية، والتي يسأل الناس فيها كثيرًا؛ ما يقتضي أن تُقدَّم لها معالجة فقهية صحيحة إن شاء الله.


 مشروعية الانتخابات
إن المسلم بطبيعته يجب أن يعرف الحكم الشرعي لكل عمل يُقدم عليه، ولما كانت الانتخابات من الأمور المعاصرة التي تواجه الإنسان المسلم، فإن رجوعه واستفتاءه في مسألة الانتخابات يجب أن يكون إلى المرجعية الشرعية التي يثق بدينها، ويلتزم بفتواها، وله أن يسأل عن الدليل على الحكم الذي يقوله له هذا العالم أو ذاك، وله أن ينظر في الدليل الشرعي، إن كان من أهل النظر في الأدلة، وله أن يراجع العلماء، ويستفتي حتى يطمئن إلى الأمر الذي يقدم عليه.
على أي حال، فإن المسلم مطالبٌ بأن يُعمل تفكيره، ويعود إلى نفسه، ويراجع أهل العلم والبصيرة؛ ليصل إلى ما يراه الأقرب للصواب، والله تعالى يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) (النحل).   ولما كانت الانتخابات من الأمور التي جدَّت في حياة المسلمين؛ اقتضى الأمر بيان الحكم الشرعي فيها، وبيان وجه الحقِّ فيها.
 المعلوم أن المسلم دائمًا تنبثق رؤياه من كونه يعيش في مجتمع، ويلتزم بعقيدة، ويلتزم بدين، والمسلم بطبيعة الحال من واجباته الأساسية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، يقول الله عز وجل: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) (آل عمران)، ويقول سبحانه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) (آل عمران).
 فمن واجب المسلم الذي يعيش في أي مجتمع أن يسهم إيجابيًّا في حلِّ قضايا هذا المجتمع، بحسب وجهة نظره الإسلامية، وبالتالي فإذا أتيح له أن يشارك في انتخاب النواب الذين ينوبون عن الأمة في المسائل التشريعية أو في اختيار الحكومة، وفي إعطاء الثقة لها، أو نزعها منها، وفي درء المفاسد عن الأمة، وغير هذا من المصالح المترتبة على دخول النواب في مجلس الشعب؛ فإذا أتيح للمسلم أن يشارك في انتخاب هؤلاء النواب؛ فإن وجهة النظر الشرعية أنها فرصة لا يجوز للمسلم أن يضيِّعها، إذ لا بد أن يكون لها دور في إزالة بعض المنكرات، أو إشاعة بعض أنواع المعروف، أو رفع الظلم عمومًا عن الناس، ومنهم المسلمون، أو في إبعاد الفساد عن الدولة، ذلك الفساد بجميع أشكاله الذي يضر الناس جميعًا، ومنهم بالطبع المسلمون.
 وإذا تخلف المسلم عن المشاركة في مثل هذا الأمر؛ فقد قصر في القيام بواجبه الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي أوجبه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ".
وإن من أهم وسائل إنكار المنكر أن ينكره النائب عن الأمة، الذي يتلقى الناس عادة، وتتلقى الحكومات ويتلقى ذوو الرأي كلامه بالقبول، وتنشره وسائل الإعلام على كل صعيد، ومن ثَمَّ كانت المشاركة في الانتخابات ترشيحًا وإدلاءً بالصوت نوعًا من الجهاد الأكبر؛ لأن فيها جهدًا كبيرًا يبذل لخدمة الإسلام والوطن والمسلمين، وسائر الناس أجمعين، وفيها كذلك رفع لبعض الضرر عن الأمة، وكذلك إزالة لبعض المنكرات من حياتها ضمن الحدود التي يستطيعها النائب الذي يتقدم إلى ذلك المجلس التشريعي.
نعم هي جهاد أكبر؛ لأنها فريضة الوقت، فقضية الإسلام اليوم هي انحراف كثير من الحكومات عن دين الله تبارك وتعالى وعن شريعة الحق، وشيوع الفساد في كثير من الجوانب ومناحي الحياة على أيدي رجالات الدولة، والجهاد الأكبر هو في إصلاحهم أو استبدالهم.
ولا شك أن المشاركة في الانتخابات هي الوسيلة المعاصرة الآمنة لذلك، وهي التي تدخل في حدود الاستطاعة.
أما الذي لا يشارك في عمليات الانتخابات، فإنه يفوته القيام بهذا الواجب، وإن كان يقوم بواجبات أخرى، لكنها ليست بديلاً فيما نرى عن المشاركة في الانتخابات وأي أنشطة أخرى لا تزيل عن المتخلف إثم التخلف عن هذه المشاركة.
فالقائم بهذا الأمر له أجره، والمتخلف عن هذا الواجب عليه إثمه، والله تعالى يقول: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) (الأنبياء).
 وبناءً على ذلك نقول
:أولاً: العمل النيابي عن الأمة هو أسلوب من أساليب الحسبة، والمجالس التشريعية (مجلس الشعب وغيره) هي منبر من منابر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبخاصة إذا كان الاعتماد في الحسبة هو التغيير باللسان وليس بالقوة التي لا تؤمن عواقبها، ولا شك أن الحسبة واجب شرعي عيني يمكن أن يكون باليد بشروط، كما يمكن أن يكون باللسان بشروط، كما يمكن أن يكون بالقلب وهو الحد الذي لا يعذر المسلم بتركه.
 ثانيًا: أُطمئن الذين يترددون عن المشاركة بزعم أن المشارك في مجالس لا تلتزم بأحكام الإسلام يُضطر إلى أن يقبل بأحكام تخالف شريعة الله؛ أقول أبدًا، إن المشاركة في المجالس النيابية لا تُلزم بقبول أي موقف تشريعي أو سياسي يُخالف الشريعة، بل للنائب أن يُعارض، وله أن يقدم البديل، وله أن ينتقد، وله أن يقاطع، وله أن ينسحب، وله أن يقدم المشروعات التي تتوافق وروح الشريعة السمحاء، فإذا كانت المشاركة للنائب لا تُلزمه بقبول موقف غير شرعي، فهذا دليلٌ على إباحتها وجوازها، وعدم الجواز إنما يتعلق بالذين يمارسون النيابة عن الأمة بصورة غير شرعية، والذين يسكتون عن القوانين الباطلة، ولا يعارضونها، ولا يعملون على إصلاح النظام بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية.
 بل أقول: إن عدم الدخول في المجالس النيابية وعدم المشاركة فيها، وعدم القيام بهذا الأمر مع القدرة والاستطاعة؛ أشبه بالهروب من المسئولية والتولي يوم الزحف؛ لأن ترك هذه المواقع لمن يسخرونها لمحاربة الإسلام، ومخالفة الشريعة واستلاب حقوق الضعفاء والمحرومين من أي ملة كانوا؛ ينافي مقاصد الشرع الحنيف الذي جاء للعمل على تحقيق العدالة والمساواة، ورفع الظلم والقهر والتسلط عن عباد الله في حدود المستطاع.
 ثالثا: المشاركة في المجلس النيابي أو التشريعي هي باب من أبواب الدعوة إلى الإسلام، وعرض أفكار الإسلام ومبادئه، من خلال المناقشة والحوار والاحتكاك بالآخرين، بل المجلس النيابي منبر من أخطر المنابر الدعوية وأعمها وأشملها وأفعلها، في إيصال الصوت الإسلامي إلى كلِّ الناس، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم ومواقعهم السياسية والنقابية والعلمية والاقتصادية.
حقيقة: إن المشاركة فرصة لعرض المشروع الإسلامي من جميع جوانبه، وبجميع مفرداته؛ حتى لا يبقى للناس على الله حجة.
وأخيرًا.. إن المشاركة في المجالس النيابية والتشريعية من شأنها أن توفر الكثير من الفرص لتحقيق مصالح الناس، ودرء المفاسد عنهم، وتقديم المشروعات التي تساعد على تحقيق الإنماء المتوازن والإعمار المتوازن، والدعوة إلى تكافؤ الفرص أمام جميع أبناء الأمة.
 وعلى هذا فإن مشاركة الإسلاميين في المجالس التشريعية في كلِّ الأحوال، باتت ضرورةً ملحَّة، تفرضها اعتبارات كثيرة:
 منها: الانتقال بالطرح الإسلامي من المستوى النظري التجريدي الوعظي الخطابي إلى المستوى العملي التجريبي.
 ومنها: تعريف الغير بالمشروع الإسلامي وأصالته ونقائه وخصائصه المختلفة، وخصوصًا بعد أن أصابه تشويه مفتعل متعمد من أولئك الذين تكلموا باسمه أو مارسوا تحت عنوانه ممارسات شاذة غير صائبة وغير حكيمة.
ومنها: أننا حين نترك مشروعنا الإسلامي ليتحدث عنه الغالون، أو يتحدث عنه الجافون فإننا نظلم مشروعنا الإسلامي، وإن من واجبنا أن نُعَرِّف الغير بحقيقة هذا المشروع بأصالته وجزالته ونقائه ومرونته.
 ومنها: الانتقال بالحركة الإسلامية من إطار الشريحة التنظيمية إلى إطار الحالة الجماهيرية، وبالتالي تطوير الطرح والخطاب والممارسة تطويرًا نوعيًّا كميًّا من شأنه أن ينتقل بالحركة من قيادة النخبة إلى قيادة الأمة.
 ومنها: أن من واجبنا تعبئة الفراغ الذي خلفه سقوط التيارات العلمانية والقومية المختلفة، التي كانت وإلى فترة غير بعيدة مصادرة للقرار السياسي باسم المسلمين، هذه التيارات التي سقطت، وبان عوارها، وانكشفت سوءاتها، يحتاج الأمر إلى ملء الفراغ الذي خلفه سقوطها، ولا يملأ هذا الفراغ إلا حملة دعوة الإسلام، ورسالة الإسلام الذين يجب أن يفقهوا هذا الأمر، وأن يشاركوا في هذه العملية. 
ومنها: تحقيق حالة الانسجام مع المدِّ الإسلامي الدعوي والمقاوم المتنامي في كلِّ أرجاء الدنيا، والذي يتهيَّأ لأخذ دوره على كلِّ صعيد؛ لنقوم بطرح الإسلام كبديل حضاري وتشريعي وحيد، ليس للمسلمين فقط، بل للبشرية برمتها. 
إنه لم يعد مقبولاً أن تبقى الساحة الإسلامية بعيدة عما يجري، وغير عابئة ولا مشاركة ولا صانعة لما يجب أن يجري، أو لما يمكن أن يجري.
 إن على كل فصائل الحركة الإسلامية أن تتقدم للمشاركة في هذه العملية الانتخابية تحت سقف مشروع إسلامي وطني واحد؛ لمواجهة العربدة والمشاريع الأمريكية الصهيونية التي تريد أن تجتاح الأمة على كل صعيد.
 في مقاطعة الانتخابات تعطيل للقواعد الشرعية:
إن مقاطعة الانتخابات ترشيحًا أو اقتراعًا، في هذه الظروف التي نعيشها، ما لم تكن له أسباب مصلحية معتبرة، من شأنه أن يُعطِّل جميع القواعد الفقهية التي تتعلق برفع الحرج عن الأمة.
 إن القواعد الشرعية تقول: المشقة تجلب التيسير.
وتقول: إذا ضاق الأمر اتسع.
وتقول: الضرر يُزال.
وتقول: الضرر لا يُزال بالضرر.
وتقول: إذا تعارضت مفسدتان رُوعِي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما.
وتقول: درء المفاسد مقدَّم على جلب المنافع.
وتقول: يتحمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام.
وتقول: يجب الأخذ بأخف الضررين وأهون الشرَّين، إلى آخر هذه القواعد التي تتعلق برفع الحرج عن الأمة، وإن المقاطعة تُعطِّل هذه القواعد، بل المقاطعة هي سكوتٌ عن الحق، وهي قبولٌ بالمنكر، وهي قعودٌ عن الإقدام على تغييره، ولا شك أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والساكت على المنكر، هو ذلك المعنى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُوُنَّهُ فَلاَ يَسْتَجِيبُ لَكُمْ".وإن أشد المنكرات خطورةً لهي المنكرات السياسية، التي تُؤصِّل للاستبداد، وتمنع الناس حقوقهم، فتترتب عليها المظالم الاجتماعية والمفاسد الاقتصادية، وسائر أنواع الفساد في كل نواحي الحياة.
 المشاركة تدرئ المفاسد عن الأمة:
إن المشاركة الانتخابية ترشيحًا واقتراعًا، من شأنها أن تدرئ الكثير من المفاسد عن الأمة، فعلى سبيل المثال: يمكن أن يحقِّق الأداء النيابي الأهداف التالية:
أولاً: تقويم بعض السياسات التربوية، التي من شأنها حين يتم تقويمها أن تنعكس إيجابًا على تكوين أجيال مسلحة بالعلم والأخلاق، تبني مجدها، وترفع لواء أمتها.
ثانيًا: تقويم بعض السياسات الإعلامية، التي من شأنها أن تنتقل بوسائل الإعلام من حالة التخريب الأخلاقي إلى حالة البناء.
 ثالثًا: تقويم بعض السياسات الاقتصادية، التي من شأنها أن تحقق للأمة الكفاية والرفاهية والعيش الكريم، في التعليم والغذاء والعلاج والإسكان، وغير ذلك، إضافةً إلى ما يمكن استحداثه من مؤسسات مصرفية غير ربوية؛ تدفع الحرج الشرعي عن المسلمين، وتيسِّر للمتورعين عن التعاطي الربوي فرصة استثمار أموالهم استثمارًا شرعيًّا حلالاً.
رابعًا: تقويم بعض السلوكيات من خلال تقديم مشاريع بقوانين من شأنها الحد من التداعيات الأخلاقية، وكبح جماح ظواهر العُهر والفجور والفساد الأخلاقي والتحلل الأخلاقي، وتعاطي المخدرات، وغيرها من أسباب الإدمان الكحولية وغير الكحولية، ومن خلال تحصين الأجيال المسلمة، ودفعها إلى التمسك بالقيم الدينية والمكارم الأخلاقية.
خامسًا: تقويم بعض السياسات البيئية، والتي من شأنها حين يتم تقويمها التخفيف من الأخطار الناجمة عن تخلف أساليب التخلُّص من النفايات ودخان المصانع والسيارات، إضافةً إلى المخاطر الناجمة عن شركات ومستودعات الغاز والنفط المتجاوزة أبسط قواعد المحافظة على الاعتبارات البيئية والصحية والأمنية.
 مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني من خلال المجالس النيابية:
إن العمل من خلال المجالس النيابية والتشريعية، يُمَكِّن من تحقيق المواجهة الصحيحة للمشروع الأمريكي الصهيوني، ويمكن من خلال ذلك وقف زحف العولمة الفكرية والتربوية والإعلامية والأمنية والعسكرية، على غرار ما تقوم به المقاومة الباسلة في فلسطين والعراق وغيرها، والتي تواجه هذا المشروع في الميدان العسكري، ومن شأن دخول الصوت الإسلامي البر الطيب النافع أن يوفر دعمًا قويًّا، وأن يُعلِّي من الحس الوطني الجهادي الذي يساعد على مواجهة هذه المشاريع، التي تهدف إلى تغريب الأمة وبسط هيمنة الأجانب عليها، والتي يسعى النظام الدولي وقوى الاستخبار في العالم إلى فرضها على منطقتنا. 

الانتخابات مشروع شرعي أصيل:
ثم إني أقول لأولئك الذين يتصورون أن الانتخابات ليس لها أصل شرعي.
أقول: بل الانتخابات مفهوم شرعي أصيل.
إن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايعه الأنصار في بيعة العقبة الثانية قال: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى كفلاء قَوْمِهِمْ وأكون كفيلاً على قومي". 
إذًا النبي يطلب من جموع الأنصار التي جاءت تبايعه أن تخرج له اثني عشر نقيبًا، ومعنى هذا أن تنتخب هذه المجموعة اثني عشر يمثلون هذه المجموعة كلها، وينوبون عنهم في عقد المبايعة مع النبي صلى الله عليه وسلم. 
صحيح لم يحدث انتخابات بالصورة التي تحدث في يومنا هذا، لكن هذه كلها أشكال لعملية الانتخاب، لكن المضمون واحد، وهو عملية الانتخاب. 
بل أرسل الله إلى بني إسرائيل وبعث منهم اثني عشر نقيبًا. 
والمقصود بالنقابة أن النقيب كفيل عن قومه. 
فقضية انتخاب فئة تمثل الأمة قضية إسلامية ومفهوم إسلامي أصيل، وأشكال هذا الدور يتغيِّر من وقتٍ إلى آخر، ولا بأسَ من ذلك ما دام المضمون قائمًا وصحيحًا. 
التزوير للانتخابات لا يدفعنا إلى اليأس:
وأقول للذين يتقاعسون، ويقولون: نحن نقاطع الانتخابات لأنها ستُزور مثل كل مرة، ولن ينجح أحد ممن سنختارهم، والأولى بنا أن نقاطعها؛ لأنها لا فائدةَ من الإدلاء بالصوت فيها؛ لأن النتيجة محسومة سلفًا.
 أقول لهؤلاء: أيها الأحبة، لقد قرر الإسلام الشورى باعتبارها قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية، وأوجب على الحاكم أن يستشير، وأوجب عن الأمة أن تتناصح، واعتبر النصيحة هي الدين كله، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ" فقال الصحابة: لِمَنْ؟ قَالَ: "للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ".
 ومعنى النصيحة لأئمة المسلمين، أي: لأمرائهم وحكامهم، فقد جعل الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةً لازمةً، وجعل أفضل الجهاد كلمة حق تُقال عند سلطان جائر، وجعل مقاومة الطغيان والاستبداد والفساد أرجح عند الله من مقاومة الغزو الخارجي، واعتبر المجاهد بكلمة الحق عند الجوَرة والظَلمة، أعلى درجةً من المجاهد في الميدان؛ لأن الغزو الخارجي غالبًا ما يأتي عند حصول الفساد الداخلي، وإذا نظرنا إلى نظام الانتخاب أو التصويت، فإنه باب من أبواب النصيحة الشرعية التي لا يصح التخلُّف عنها لأي سببٍ من الأسباب.
 ومن واجبنا أن نعمل على إنقاذ السفينة، شاء الناس أم أبوا، قبل المفسدون أم رفضوا، إنما نحن الذين يجب أن نقوم بدورنا، وأن نمنع بخروجنا وبمواقفنا التزوير، ونمنع تزوير إرادة الأمة بخروجنا. 
ثم إن الانتخاب يعدُّ شهادةً للمرشح بالصلاحية، ومن ثَمَّ يجب أن يتوفر في الإنسان الذي يترشح والذي يُعطى هذا الصوت، يجب أن تتوفر فيه العدالة، ويجب أن تتوفر فيه الأسباب التي تجعله صالحًا للقبول، وعندئذٍ تكون الشهادة له شهادة حق، أما الشهادة لغير الصالح وغير الكفء وتقديمه؛ فهو لون من ألوان الزور الذي أمرنا الله باجتنابه فقال: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ (الحج: من الآية 30). 
نعم إنه لا يحل لنا أن نشهد بالصلاحية لمرشحٍ لمجرد أنه قريب أو ابن بلد أو لمنفعة شخصية قدَّمها، أو ترتجى من ورائه، بل يجب أن تُقام الشهادة لله: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلهِ﴾ (الطلاق: من الآية 2). 
والذي يتخلف عن أداء هذا الواجب، وعن أداء هذه الشهادة ويؤدي تخلفه إلى رسوب الكفء الأمين، وإلى فوز غيره، ممن لم تتوفر فيه أوصاف القوي الأمين، فالذي يفعل هذا يكون قد خالف أمر الله في الشهادة، فقد دُعي للشهادةِ فأبى، والله تعالى يقول: ﴿وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ (البقرة: 282). 
وكَتَم الشهادة حين احتاجتها الأمة، فالله تعالى يقول: ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: من الآية 283).
 ليس الترشيح تزكية للنفس المنهي عنها:
سائل يسأل: أليس الترشح بابًا من أبواب تزكية النفس؟ وهو أمر غير مقبول شرعًا، فالذي يرشح نفسه للدخول في الانتخابات، ألا يدخل ذلك من باب التزكية؟، والله تعالى يقول: ﴿فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ (النجم: من الآية 32). 
نقول: ليس الترشح للانتخابات- إذا صحت نية المتقدِّم والمرشح- من باب تزكية النفس، إنما يدخل في بابٍ من يظن في نفسه القدرة على تمثيل الناس، والمطالبة بحقوقهم، ورفع الظلم عنهم، وأداء المصلحة لهم، وهذا أشبه بقول سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: من الآية 55)، فهو عليه السلام وعلى أنبيائنا أجمعين، قدَّم نفسه إلى الولاية على الشئون المالية للناس؛ لما يعلم في نفسه من الأمانة والحفظ، أما طلب الإمارة، فهذا الذي جاء في الشريعة التحذير منه، وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ"، وهذا بالنسبة للولاية العامة على شئون الأمة، أما التمثيل النيابي في البرلمان، فهو وكالة عن الأمة للمطالبة بحقوقها، ورفع الظلم عنها، ودرء المفاسد عنها، ومحاسبة الحكومات، ومتابعة عملها، وليس له علاقة بالولاية التمثيلية التي يقوم بها رئيس الجمهورية أو الملك أو الأمير أو رئيس الدولة أو رئيس الوزراء أو غيرها من الولايات العامة على الأمة.
 ومع ذلك فإننا نرى أن تقوم الحركات الإسلامية يترشيح مَن تتوسم فيه الخير من أعضائها أو من غيرها من الإسلاميين، الذين يحملون المشروع الإسلامي، وتقدمهم إلى الأمة، وتدعو الناس إلى انتخابهم، وبهذا تُبعِد أية شبهة في طلب الولاية، أو في تزكية النفس، وهذا ما تفعله الحركة الإسلامية حين تختار بعض رموزها أو بعض أفرادها، أو بعض من تتوسم فيهم الخير؛ لتقدمهم إلى الترشح، ليمثلوا الأمة في المجالس التشريعية.
التحالفات الانتخابية
والعملية الانتخابية تجرنا إلى بعض المسائل المتعلقة بها بعد أن أفضنا في بيان- لا أقول مشروعية الانتخابات- بل وجوب المشاركة في الانتخابات، وحرمة التخلف، وإثم القعود عن المشاركة ترشيحًا واقتراعًا، طالما ثبتت المصلحة الشرعية المعتبرة للمشاركة. 
نأتي إلى مسألة ترد على ألسنة الكثيرين من الناس، وهي ما يسمى بالتربيطات والتحالفات الانتخابية. 
فبعض الناس يقول: إن الإسلاميين، الذين يحملون المشروع الإسلامي، ربما تحالفوا مع من يحمل مشروعًا غير إسلامي أو غير ذلك. 
فما حكم هذا التحالف، وما حكم هذا التنسيق أو هذه التربيطات.
 وأقول أيها الأحبة: أولاً: إذا كان التحالف مع جهتين إسلاميتين، أو بين مرشحين إسلاميين، يحملون المشروع الإسلامي، فهذا تحالف مبدئي والحاكم فيه على الطرفين هو الإسلام ومبادئه العامة، حتى إذا كان بين الفريقين بعض الاختلافات الشرعية في بعض المسائل الشرعية الجزئية، فثمة الكثير من المبادئ يتفق عليها الجميع، وإن من واجبنا أن نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه. 
أقول: بل يجب أن يقوم هذا التحالف بين حملة المشروع الإسلامي، بل هو من أقوى أنواع التحالف المأمور به شرعًا، لقول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: من الآية 2).
 أما التحالف السياسي الذي يضطر إليه أحد المرشحين الإسلاميين، أو تضطر إليه جهة إسلامية، فتتعاون مع جهة لا تحمل المشروع الإسلامي، أو مع مرشح غير إسلامي، أو حتى مع مرشح غير مسلم، كالتحالف مع الجهات الوطنية والقومية وغيرها.
 فهذا التحالف يجوز إذا كانت هناك قضايا سياسية عامة متفق عليها، تلتقي فيها وجهة النظر الإسلامية مع وجهة نظر أصحاب الاتجاهات الأخرى، كالقضايا الكثيرة التي يتفق عليها الجميع، مثل: قضية محاربة الفساد المالي والإداري في الدولة، وقضية محاربة الرشاوى، وقضية المطالبة بتعديل القوانين سيئة السمعة، أو القوانين المخالفة للشريعة حتى تنسجم مع أحكام الشريعة... إلى غير ذلك من قضايا الحريات والدعوة إلى رفع قوانين الطوارئ، والقوانين السيئة، فكل هذه الأمور المشتركة، لا بأس أن يحدث تحالف بين من يعمل على هذا الصعيد سواء كانوا إسلاميين أو غير إسلاميين، يحملون المشروع الإسلامي، أو يحملون مشروعًا قوميًّا أو وطنيًّا أو غير ذلك، فلا بأس عندئذ بالالتقاء على هذه الأسس السياسية المشتركة والتي هي مقبولة من وجهة النظر الإسلامية، وهذا مما يساعد المرشح الإسلامي أو الجهة الإسلامية على تحقيق بعض أهدافها بالتعاون مع الجهات الأخرى التي تعيش معها في نفس المجتمع وتشاركها المواطنة، وتتقاسم معها هموم الوطن والمواطنين.
ومما يدل على جواز هذا التحالف، حلف الفضول، الذي شارك فيه النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وقد كان حلفًا بين زعماء قريش على إغاثة الملهوف، ومساعدة المحتاج، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، والتي جاء الإسلام بالدعوة إليها، وقد قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: "لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوِ أُدْعَى بِهِ فِى الإِسْلاَمِ لأَجَبْتُ". 
إذًا، لا بأس بالتحالف على المسائل المشروعة، والتي هي مقبولة من وجهة النظر الإسلامية.
 أما التحالف مع من يُعلن رفض المشروع الإسلامي جملةً وتفصيلاً، ومع من يدعو إلى عدم تطبيق الشريعة، ومع من لا يلتزم بصميم الدستور الذي ينص على اعتبار الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد من مصادر التشريع، هذا هو غير الجائز شرعًا أن نعمل على إنجاح مرشح يكون همه محاربة الشريعة ومحاربة المشروع الإسلامي. 
لكن التحالف مع غير الإسلاميين من القوميين والوطنيين وغيرهم من أجل قواعد مشتركة، أمر جائز لا أرى فيه أية شبهة مخالفة للشريعة أو لحقائق الدين، والله أعلم. 
التصويت بالعصبية ممقوت
وهذا ينقلنا إلى مسألة التصويت بالعصبية أن يقوم أبناء قرية معينة، أو مدينة معينة أو حي معين، أو أهل عائلة معينة، بالتصويت لقريبهم، ولابن بلدهم، وغير هذا من الأسباب التي للأسف استشرت في مجتمعاتنا.
أحب أن أقول أيها الأحبة: إن الإسلام لما جاء وجد أهل الجاهلية يتعصبون لقبائلهم، ويتحزبون لانتماءاتهم العرقية، يفتخر بذلك بعضهم على بعض، فجاء الإسلام لينهى عن تلك العصبية الممقوتة، قال صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ"(1). 
وجاء الإسلام ليرتب على ذلك ترك العصبية للأهل والأقارب؛ لأن فيها اتباعًا للهوى وغمصًا للحق، وإنكارًا للعدل، وتسويغًا للباطل، ورضا بالظلم، وهذه كلها أمور تناقض تعاليم الإسلام السمحة، وتخالف قيمه النبيلة.
 لقد جاء الإسلام يدعو المسلمين إلى التمسك بالحق والعدل حيثما كان، قال الله جل وعلا ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية 8). والمعنى لا يدفعنكم كراهيتكم لقوم، أو بغضكم لقوم، على ظلمهم أو انتقاص حقهم، بل اعدلوا فالعدل أقرب للتقوى، بل إن الإسلام يدعو المسلم أن يقول كلمة الحق ولو على نفسه، ولو على والديه، ولو على الأقربين، يقول جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) (النساء). 
إن الإسلام يلزم المسلم أن يكون قوامًا بالعدل، مؤديًا لشهادة الحق، قاصدًا بقوله وفعله وجه الله، صادعًا بالحق والعدل ولو على نفسه، ولو على أحب الناس إليه وآثرهم إليهم كوالديه وأقاربه وذوي رحمه.
 إن الإسلام يحذر من العواطف في مثل هذه الأمور، ويحذر من الانحياز إلى صاحب الباطل بزعم قربه أو قرابته، فإن ذلك من اتباع الهوى، والانحراف عن الجادة.
 ولذلك فإني أقول: إن عليك أيها الأخ المواطن الكريم، عندما تتقدم إلى الاقتراع، وتدلي بصوتك، ألا تتعصب إلا للحق، وألا تنحاز إلا إلى العدل، وأن تكون قوامًا لله بشهادتك، عليك أن تختار لأمتك أفضل من يمثلها، ويقوم بمصالحها، ولو لم يكن قريبًا لك، ولا من بلدك، عليك أن تتجنب اختيار من يسيء إلى الأمة، وإن كان أقرب إليك وأحب إلى نفسك؛ لأن هذا هو صحيح الإسلام.
 شراء الأصوات
ويجرنا ذلك إلى قضية شراء الأصوات من بعض ذوي المال واليسار، حين يتدخل أصحاب الأموال، ليجمعوا ما بين الاقتصاد والسياسة فيقدمون الرشاوى للأمة بأشكال مختلفة. ما حكم الذي يقدم رشوة لمواطن لكي يدلي بصوته لمصلحته؟
 وما حكم الذي يأخذ هذه الرشوة؟ المعلوم من حقائق الشريعة أن الرشاوى بجميع أنواعها وأشكالها محرمة في شريعتنا الإسلامية، بل وفي كل الشرائع، وكل الناس يعتبرون الرشوة رذيلة من الرذائل والله تعالى يقول: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) (البقرة).
 والنبي صلى الله عليه وسلم يحرم قبول الرشوة بقصد أو بغير قصد، ويلعن الراشي والمرتشي والرائش أي الوسيط عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ. يَعْنِي الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا"(2).
 ولهذا فإنه لا يجوز لأي مرشح شراء الأصوات من أي واحد من الناخبين كما لا يجوز لأي ناخب أن يبيع صوته لأي واحد من المرشحين؛ لأن الانتخاب أمانة وشهادة، والمطلوب من المسلم أن يؤدي الشهادة لله بما يرضي الله، فإذا أخذ مبلغًا من المال، وأعطى صوته لمن يدفع له هذا المبلغ، فهي حينئذٍ شهادة زور، لا ترضي الله تبارك وتعالى، والذي يفعل ذلك مثله كمثل من يشهد على إنسان بريء أمام القضاء فيجرمه بغير حق، أو يشهد شهادة تؤدي إلى تبرئة مجرم، وهذه شهادة زور، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها بأبلغ صور النهي حين قال: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَوْ قَوْلُ الزُّورِ"، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ(3).
 وهذا الكلام يجرنا إلى الحديث عن ضوابط الاختيار وآداب المرشح.
 إذا كانت الانتخابات هي الوسيلة التي تؤدي إلى اختيار من يمثل الأمة في شئون الحكم، وإدارة البلاد، وتقديم التشريعات، ورفع الضرر، وإزالة الظلم والفساد، وغير هذا.
 وإذا كان المسلم وإذا كان المواطن يعطي رأيه في هذه الانتخابات، فإن من واجبه أن يختار السلطة والممثلين الإسلاميين الذين يحكمون وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما لم يجد مرشحًا إسلاميًّا فعليه أن يختار الأفضل من بين المرشحين أو على الأقل، يختار الأقل ضررًا ولا يمتنع من إبداء رأيه، وذلك مبني على القاعدة الشرعية وهي اختيار أخف الضررين، وإن على من يمارس حقه في الترشيح والانتخاب أن يعرف الأحكام الشرعية الخاصة بهذا الأمر.  
الشروط التي يجب توافرها فيمن يرشح نفسه لعضوية البرلمان
فالمرشح لنيل العضوية والقيام بتمثيل الأمة في البرلمان، يتطلب أن تتحقق فيه مجموعة من الشروط:
 الشرط الأول: ألا تكون نيته التنافس على مناصب الدنيا، أو الحصول على مكسب من مكاسبها الزائلة فهذه آفة الآفات أن يتقدم لمصالحه الخاصة، وأن يضحك على الناس ويخدعهم بأنه يريد أن يحقق مصالحهم، والحقيقة أنه يسعى وراء مصالحه الشخصية، وربما ينفق في سبيل ذلك كثيرًا من الأموال، يعمل على استرداد أضعاف أضعاف هذه الأموال من خلال تحقيق مصالحه الشخصية.
 يجب أن تكون نية المرشح أن يدخل لتقديم الخير للأمة، وعدم التنافس على ناصب الدنيا، بل ابتغاء وجه الله، وقيامًا بحق هذا الوطن ونفع هؤلاء الناس .              أما الشرط الثاني: فعليه ألا ينافس من هو أكفأ منه، وأجدر لهذا الموقع، فإذا علم أن أحد المرشحين أكفأ منه وأجدر وأقدر على القيام بهذا الأمر فإن عليه ألا يقدم نفسه في مواجهته.
 الشرط الثالث: كذلك من الشروط: أن تتوفر فيه القدرة على القيام بحق هذا العمل، وأداء واجباته وتبعاته من الإصلاح والمتابعة، وما تقتضيه النيابة عن الأمة في تحقيق مصالحها، ورفع الظلم والضرر عنها، مثلما ذكر الله تبارك وتعالى على لسان بنت الرجل الصالح، عن سيدنا موسى- عليه السلام-: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ (القصص: من الآية 26). ومثلما ذكر الله على لسان سيدنا يوسف- عليه السلام- حين تقدم لولاية الشئون المالية: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) (يوسف).
 أما أن يتقدم أي إنسان وليست لديه القدرة على القيام بهذا الأمر فهذا أمر يجعل طلبه غير مشروع.
ولهذا فإن الذين يستحقون أن يتقدموا للترشيح، هم أصحاب الكفاية العلمية والأخلاقية- الذين لهم قواعد جماهيرية في البلاد المختلفة التي يمثلونها، والذين لهم امتدادات من إخوانهم وأحبائهم، يرفعون إليهم مظلوميات الأمة، ويرفعون إليهم واقع الأمة، ويرفعون إليهم حاجات الأمة، ويساعدونهم على تحقيق مصالح الأمة.
 المرشح الذي يتقدم لا يجب أن يكون مرشحًا منقطعًا ليست له قواعد جماهيرية في مختلفة أرجاء الدائرة التي يمثلها بل يجب أن يكون هذا المرشح له قواعده في مختلف أرجاء الدائرة من إخوان صادقين ناصحين، ينقلون له نبض الجماهير، وأحاسيس الأمة، ينقلون إليهم مشاكلها ويساعدونه على أن يقف على واقع الأمر، وينقلون إلى الناس كذلك ما يتقدم به وما يقدمه، هذا ما يجب أن يتوفر فيمن يتقدم للترشيح نيابة عن الأمة. 
آداب الدعاية الانتخابية
وعليه حينما يقوم بالدعاية أن يتمتع بمجموعة من الآداب:
الأدب الأول: مهم جدًّا ألا ينشغل في مرحلة الدعاية عن واجباته الشرعية وطاعته لله، المرشح الذي ينشغل بالدعاية عن الصلاة، وينشغل بالدعاية عن طاعة الله أحرى أن ينشغل بعد الدعاية عن الأمة التي وكلته، المرشح الذي لا يخاف الله تبارك وتعالى ولا يراقبه أحرى إذا كان لا يخاف من الله، ولا يراقب الله، أحرى ألا يراقب الذين انتخبوا وألا يسعى في مصالحهم بعد ذلك. 
الأدب الثاني: التحلي بالخلق الإسلامي الرفيع بين الناس، وأن يكون مهذبًا في عباراته مؤدبًا في ألفاظه جيدًا في سلوكه.
 الأدب الثالث: يجب عليه ألا يتكلف المبالغ الطائلة في حملته الانتخابية حتى لا يقع في الإسراف الذي جاء النهى عنه شرعا: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأنعام: من الآية 141).
 الأدب الرابع: ألا يذكر أحد منافسيه بالسوء وألا يفتري على الناس كذبًا وبهتانا: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ (الصف: من الآية 7).
إن المنافسة الانتخابية لا تعطي لأحد الحق في أن يتجاوز الآداب والقيم الإسلامية في الحديث عن المخالف، لا يجوز لمن يتقدم نيابة عن الأمة أن يكون لسانه سليطًا حديدًا يعيب الناس بما ليس فيهم ويتكلم على الناس بالسوء. 
إن الذي تكون حملته الانتخابية عبارة عن إساءة للآخرين، هو إنسان فج، لا يصح أن يعبر عن الأمة، ولا أن يمثلها في شيء؛ لأن مثل هذا الشخص حري إذا حقق مصلحته ألا ينظر إلى مصالح الأمة، وحري إن تكلم مع الناس عند الترشح بلسان لين أن يتكلم معهم بعد ذلك بلسان حديد قبيح شديد.
 الأدب الخامس: من الآداب التي يجب أن يتمتع بها المرشح في دعايته أن يكون صادقًا لا يعد بما يعلم أنه قد يكون غير قادر على تنفيذه، فإن الوفاء بالعهد من الإيمان وإن خُلف الوعد صفة من صفات النفاق.
الأدب السادس: ألا يقدم رشاوى للناخبين أي كان نوعها، سواء أكانت رشاوى مباشرة مادية مباشرة أم غير مباشرة، كأن يعين ابن هذا، ويعمل مصلحة لهذا بغرض شراء صوته؛ لا احتسابًا لوجه الله. 
آداب الناخب
وفي المقابل فإن على الناخب أن يبحث عن الأكفأ ليختاره ممن تتوافر فيه الكفاية والقدرة على القيام بالعمل الذي سيوكل له بعدالة وحكمة. 
إذا توافرت الشروط التي سبق ذكرها في المرشح، فلا يجوز لك أن تختار غيره، ولو بحجة مبادلة الأصوات أو شرائها، لا يجوز أن تبيع صوتك في هذه الحالة بل عليك أن تختار الأكفأ الذي توفرت فيه شروط القدرة على القيام بهذا الواجب. 
- كذلك على الناخب أن يحذر أن يكون اعتبار الاختيار هو صلة القرابة أو الصداقة أو الجوار أو البلدية أو المصلحة أو العصبية للعائلة أو العصبية لفرقة ينتمي إليها ونحو هذا. 
- وأشد من ذلك أن تحذر أن يكون اختيارك قائمًا على أساس من الرشوة سواء كانت الرشوة مادية أو معنوية فهي حرام شرعًا.
 -----------
1- أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب: قَوْلِهِ: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾ (المنافقون: من الآية 8)، 9/649 (4907)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: نَصْرِ الأَخِ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا 4/1998 (2584/63). 
2- أخرجه أحمد 5/279 (22452)، والطبراني 2/93 (1415)، قال الهيثمي 4/198: رواه أحمد، والبزار، والطبراني في الكبير، وفيه أبو الخطاب، وهو مجهول. 
3- أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ 12/9 (5976)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: بَيَانِ الْكَبَائِرِ وَأَكْبَرِهَا 1/91 (87)
ترشيح المرأة
ثم ننتقل أيها الأحبة إلى مسألة تالية مسألة أخرى هي قضية ترشيح المرأة في الانتخابات، تمثل الأمة في البرلمانات، في مجلس الشعب وغيرها، تلك القضية التي كَثُر فيها الكلام ووقف بعض الناس الإسلاميين منها موقفًا فيما أرى غير صحيح حين رأوا عدم جواز خروج المرأة للتصويت، أو للترشيح بحجة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى أن تتسلم المرأة منصب الولاية العامة، فقال حين بلغه أن الفرس ولوا عليهم ابنة كسرى فقال- صلى الله عليه وسلم-: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً".
 وكذلك الذين يقولون خروج المرأة للتصويت أو للترشح يخل بالضوابط الشرعية المتعلقة باختلاط المرأة مع الرجال في المجتمع الإسلامي، فالمرأة إذا تقدمت للترشح أو التصويت ربما وقعت في بعض هذه المخالفات، أو صارت عضوًا في البرلمان، ربما تعرضت لمخالفة بعض الضوابط الشرعية، وبالتالي لا يجوز ترشحها أو انتخابها. 
وأقول أيها الأحبة: هذا كلام غير صحيح.
 أولاً: لأن تمثيل المرأة أو ترشيح المرأة، وتقدمها لتكون عضوًا في البرلمان، ليس هو الولاية العامة التي جاء الحديث بالنهي عنها، إنما النيابة تدخل في باب الوكالة عن الأمة، والوكالة لا تعطي لأصحابها أية سلطة تنفيذية يمكن أن تدخل في الولاية العامة، ويمكن أن يقوم بهذا الدور الرجل، ويمكن أن تقوم به المرأة، تستطيع المرأة أن تعبِّر عن الأمة وعن حقوقها وعن واجباتها وتعمل على رفع الظلم عنها مثلما يستطيع الرجل. 
وكذلك قضية احتمال أن تخالف المرأة المسلمة الضوابط الشرعية.
 أقول: هذا الأمر قائم في ممارسة كثير من الأحكام الشرعية التي هي جائزة، ومع ذلك لم يقل أحد بتحريم عمل جائز، خوفًا من احتمال أن تقع مخالفة شرعية، المرأة تبيع وتشتري وتتعلم، وتكون طبيبة في المستشفى ومهندسة وممرضة ومعلمة في المدارس وغير هذا، وتختلط في كل هذا بالرجال، وتستطيع أن تحفظ نفسها من المخالفات الشرعية في كل هذه الأمور، وكذلك تستطيع أن تحفظ نفسها من المخالفات الشرعية في الخروج للتصويت والترشح للانتخابات، لا يجوز لنا أن نحرِّم المباح والحلال؛ خوفًا من احتمال وقوع المفاسد؛ فاحتمال وقوع المفاسد حاصل في كل حال وفي أي حال.
 وبناءً على ما تقدم، فأرى أن القول بعدم جواز الترشيح لا دليل عليه ولا أصل يُعتمد عليه فيه، والأصل في الأشياء الإباحة، ومن ثم فلا مانع من ترشح المرأة للانتخابات النيابية وخروجها للتصويت مع ضرورة التزامها بالضوابط الشرعية، خصوصًا أن هذا الترشح يضع المرأة المسلمة في معركة تواجه فيها النساء غير الإسلاميات اللواتي تصدين لقيادة المرأة والتكلم باسمها وهن متورطات مع الموجة العالمية التي تريد إفساد مجتمعاتنا الإسلامية عن طريق إفساد المرأة.
 إن دخول المرأة المسلمة حاملة "المشروع الإسلامي" إلى ساحة هذه المعركة- معركة مواجهة النساء الفاسدات اللواتي يردن إفساد المجتمع- وهي أقدر من الرجل على ذلك دخولها يعتبر مسألةً ضروريةً لتحقيق مقاصد الشرع والمحافظة على نقاء مجتمعاتنا الإسلامية وعلى وضع المرأة فيها وعلينا أن نساعد المرأة الإسلامية والمسلمة على أن تقود المجتمع النسائي نحو الإسلام بإذن الله تبارك وتعالى.
 الحزبية والديمقراطية
وثمة شبهة تتردد عندما يتقدم الإسلاميون لطلب نيل ثقة الجماهير إذا يقول بعض الناس إن الإسلام ينكر تكوين الأحزاب، ويلزم أن تكون الأمة حزبًا واحدًا، وإنه في حالة نجاح الإسلاميين، فسوف يلغون الأحزاب القائمة، وينقلبون على الديمقراطية، وهم ينظرون إلى الديمقراطية على أنها سَلْم مؤقت، يصلون به إلى الحكم ومن ثم يلغون الديمقراطية، ويعودون إلى الاستبداد والديكتاتورية إلى آخر تلك الترهات والافتراءات التي لا أصل لها، والتي يرددها خصوم التيار الإسلامي ويفترونها، وهم يعلمون أنهم كاذبون فيما يرددون.
 أما أن الإسلام يحرص على الحزب الواحد، فهذا كلام غير صحيح فإن المقصود هنا في العملية السياسية الحزب السياسي، والإسلام لا يمنع من تكوين الأحزاب السياسية وتعدد الآراء السياسية، الذي يمنع منه الإسلام تكوين أحزاب تدعو إلى تفريق الأمة وتمزيقها، وتجعل الأمة في حرب مع بعضها البعض، تلك هي الحزبية البغيضة الممقوتة التي فيها التعصب للرأي، ولو على حساب الحق ومحاربة الأحزاب بعضهم بعضًا.. 
أما العمل السياسي الذي هو مجال لتنوع الآراء، وتعدد الآراء وغيرها فهذا أمر طبيعي، لم يمنع منه الإسلام على الإطلاق والأحزاب السياسية بمفهومها المعاصر، يمكن أن نقول إنها كانت موجودة منذ أيام الإسلام الأولى، في حياة النبي- صلى الله عليه وسلم-، وبعد وفاته ولو لم تأخذ صفة شبيهة أو اسمًا شبيهًا باسم الأحزاب المعاصرة. 
 نحن نعلم أن بعض الصحابة كانت لهم بعض الآراء التي تختلف مع بعض مواقف الصحابة الآخرين، وقد كانوا أسمى من أن يسموا أنفسهم أحزابًا، أو غير ذلك، لكن خذ على سبيل المثال حين انتقل النبي- صلى عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى وأراد المسلمون اختيار الخليفة حصل اجتماع في سقيفة بني ساعدة حضره المهاجرون والأنصار، وحصل فيه أول خلاف سياسي يمكن أن تعتبره عملاً حزبيًّا سياسيًّا؛ إذ طلب الأنصار أن يكون الخليفة منهم، وطلب المهاجرون أن يكون الخليفة منهم، وأنا أسألك أيها الأخ الكريم: ما هو عمل الأحزاب السياسية الآن؟! أليس أقصى أعمال الأحزاب السياسية المعاصرة أنها تريد أن تستلم الحكم، وأن يكون الرئيس منها، وأن تكون الإدارة منها؟.
 هذا هو ما حصل بالضبط، اختلفوا وقدم كل منهم حججه ومبرراته إلى أن وصل الغالبية إلى قناعة بأن يكون الخليفة من المهاجرين، وأن المهاجرين هم الأمراء والأنصار هم الوزراء وقبل الناس ذلك ومن تردد في النهاية قبل، ونزل على رأي الأغلبية، هذا هو العمل السياسي، ثم ظهرت الأحزاب السياسية بعد ذلك، وفي كل وقت كانت هناك فئات لها مطالب محددة وهو ما يفعله أصحاب الأحزاب السياسية، ومن هنا فلا مانع إطلاقًا في الإسلام من أن تقوم أحزاب إسلامية.
 والقول بأن الإسلام لا يعرف إلا حزب الله، وحزب الشيطان، فهذا خاص بالأمور العقدية والأمور التي فيها شق لصف الأمة، وكل الأحزاب السياسية التي تؤمن بالقواعد الدستورية التي ترى أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع وأن دين الدولة هو الإسلام، ولا تخالف الإسلام في شيء من ذلك وتؤمن بصحيح الإسلام وقواعده، وإن حصل اختلاف في بعض مسائله الجزئية والفرعية الكثيرة، فكلها داخلة في مسمى حزب الله متى كان هدف أصحابها الوصول إلى الحق.
 أما الحزب الذي نقول إنه حزب الشيطان، فهو الذي يرفع لواء وأد الشريعة، ومنع الإسلام، وحرب شريعة الله تبارك وتعالى، هذه هي الحزبية البغيضة الممقوتة.
ولهذا فالقول بأنه إذا نجح الإسلاميون في الانتخابات سوف يقيمون حزبًا واحدًا، ويلغون الديمقراطية هو قول كاذب غير صحيح، والذين يقولون بهذا بين الإسلاميين إن وجدوا فهم قلة نادرة تعيش على هامش الحركة الإسلامية وليس لها أدنى تأثير، أما الذين يتقدمون للعملية السياسية من الإسلاميين أصحاب الحركة الإسلامية، الراشدة الوسطية المعتدلة، فهؤلاء جميعًا يؤمنون بالتعددية الحزبية ضمن حدود الشريعة الإسلامية، ومن ثم فنجاحهم لن يؤدي أبدًا إلى أي استبداد سياسي؛ بل هم أكثر الناس اكتواءً بنيران الاستبداد، فكيف يتصور أن ينقلبوا مستبدين، بعد أن اكتووا بنار الاستبداد؟، إن هذا أمر غير وارد على الإطلاق، ولا يرد لا في كلامهم ولا في أدبياتهم، ولا في أقوال قادتهم.
إن الديمقراطية التي تقبل بها المجتمعات المعاصرة بصورتها، نقبل منها ما يوافق الإسلام، وهو حرية الرأي وإعطاء الأمة حقها في اختيار من تراه مناسبًا، وهذا كلام واضح لا بأس به؛ أن تُسمى هذه العملية ديمقراطية، أو لا تسمى، لا مشاحنة في الاصطلاح، هذه هي الشورى التي أرادها الإسلام، ونحن نرفض ونقبل بحسب ما يرفض ويقبل الإسلام، والديمقراطية بهذا المعنى لا تعارض الإسلام أبدًا، ولا يهمنا التسميات، المهم هو المضمون. 
رفع الشعارات الإسلامية تسقط هيبة الدين
وثمة مسألة أخرى: إن رفع أصحاب الحركة الإسلامية لشعارات إسلامية تجلب في كثير من الأحيان استهزاءً بالدين من الخصوم وهذا يسقط هيبة الدين من النفوس، فمثلاً حين يرفع الإسلاميون شعار: "الإسلام هو الحل" يرد عليه بعض الجهلاء مثلاً: "بالطول بالعرض هجيب الإسلام الأرض"، كما تردد على ألسنة بعض الجهلاء، وكأن المرشح المنافس لهم هو الإسلام، وليس هو ذلك الشخص الذي يحمل المشروع الإسلامي. 
البعض يقول: إذا كان الأمر كذلك، فإن الأولى بنا ألا نقحم الدين في المسألة وألا نتكلم عن الشريعة ولا عن الإسلام، ولا نرفع شعارات إسلامية أو دينية؛ حتى يبقى للدين قداسته، ويبقى للدين هيبته في نفوس الناس.
 وأقول: إن مسألة الاستهزاء بالدين وبالإسلام على وجه خاص؛ بل مسألة الاستهزاء بالله: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) (الإسراء). مسألة منذ القدم، وسائل خصوم الإسلام وخصوم الدعوة الإسلامية في محاولة للنيل من الإسلام والمسلمين، ولا يمكن أن تكون سببًا في عدم طرح الشعارات الإسلامية أو رفعها أو عدم المطالبة بتطبيق مبادئ الإسلام، ولا يصح هذا.
لقد استهزأ اليهود بالحق تبارك وتعالى حين قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ (البقرة: من الآية 245)، فقالوا كما ذكر الله عنهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ (آل عمران: من الآية 181)، لكن هل معنى هذا ألا نرفع هذا الكلام ما داموا يستهزئون ويقولون هذا أبدًا، بل نرد عليهم، وهذا الذي حصل فإن الحق جل وعلا لم ينسخ الآية الأولى من القرآن بحيث لا يقول اليهود هذا، أجابهم على استهزائهم بقوله: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (آل عمران: من الآية 181)، ومن واجبنا ما دمنا أصحاب مشروع إسلامي أن نرفع له شعارًا يناسبه وليس في ذلك أدنى حرج ولو أغضب ذلك بعض الجهلاء الذين نسأل الله أن يعاقبهم بما يستحقون أو أن يغفر لنا ولهم أجمعين إن شاء الله.
إنفاق المال العام على الدعاية
وينقلنا ذلك إلى مسألة أخرى وهي قضية إنفاق الأموال العامة على الدعاية، بمعنى أن بعض المرشحين ربما كان تابعًا لمصلحة معينة أو جمعية خيرية معينة، وتقوم هذه الجمعية أو هذه الهيئة العامة التي لها ميزانية من ميزانية الدولة، بعمل دعاية من مال الأمة أو الأموال العامة لهذا المرشح أو ذاك، هذا هدر للمال العام في غير محله؛ لأن الأموال التي وضعت في ميزانيات الأمة، وضعت لتحقيق مصالح الأمة لا لتأييد مرشح معين والأموال التي تلقاها أصحاب الجمعيات الخيرية بغرض إقامة أعمال صالحة للأمة، لا يجوز استخدامها في غير هذا الغرض، أما ما تفعله كثير من الهيئات حينما تسعى لتقديم الدعم من الأموال العامة في الدولة أو أموال الجمعيات الخيرية لنصرة مرشح معين فهذا إثم كبير وذنب عظيم، نسأل الله أن يبرِّئنا منها وأن يبرئ أمتنا منه إن شاء الله. 
الهجوم الشرس على الإسلام يفرض الاتحاد والتعاون بيننا
وكلمة أخيرة أختم بها هذه القضية:
إن أمتنا تتعرض اليوم لأشرس هجمة، هجمة غير مسبوقة تستهدف دينها وهويتها وخصائصها الحضارية والثقافية جمعاء، هجمة طالت المصحف الشريف بالتدنيس، وطالت مناهج التعليم بالتحريف، وطالت الأجيال الإسلامية بالتخريب، وطالت عاداتنا وتقاليدنا بالإفساد، وتجرأت على قدسية ديننا بالتعديل، وعلى حرمة الصلاة بإمامة المرأة، هجمة تستهدف عالمنا الإسلامي والعربي بالإذلال والإخضاع، هجمة تستهدف التحكم بعالمنا الإسلامي والعربي وبمقدراته بقوة أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها قوى الاستكبار العالمية، هجمة تسعى إلى صناعة حكومات وأنظمة حكم ومجالس نيابية مذعنة وخاضعة لسياساتها وقراراتها؛ لتصل بذلك لفرض مشروعها الشرق أوسطي الأمريكي الصهيوني على منطقتنا بكاملها، وإن مواجهة هذه المخططات الأمريكية الصهيونية على المستوى السياسي أو الاقتصادي، أو الإعلامي أو التعليمي أو الاجتماعي أو الأخلاقي، صار فرض عين على كل فرد من أفراد هذه الأمة، مثلما يفعل جيل الحجارة في فلسطين، ويفعل المجاهدون في العراق، إن ساحة الصراع والتدافع، تفرض على الأمة كلها المشاركة في دعم جبهة الأبرار الصالحين أبناء الحركة الإسلامية، الساعين إلى رفع رأس الأمة إعادة مجدها، الساعين إلى تحقيق مصالح الجماهير، الساعين إلى حماية مقدرات الأمة، الساعين إلى محاربة الفساد المالي والإداري، الساعين بكل جهد مستطاع إلى إقامة الحق والعدل، وتحقيق تكافؤ الفرص إلى كل أبناء الأمة، وأن تكون الأمة كلها سواسية لا فضل لأحد على أحد، وأن يكون الناس جميعًا لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات، وألا تتحكم رؤوس الأموال في الأمة، وألا يتحكم المفسدون في مقدراتها إن من واجبنا أن نساعد هؤلاء الأبرار الشرفاء، الذين يتقدمون لحمل الأمانة ومحاربة الظلم والفساد بكل صوره وأشكاله، علينا أن نساعدهم بكل جهد مستطاع، إن التفرج ممنوع، وإن الهروب من المعركة أشبه بالتولي عن الزحف، وإنه في غيبة أهل الحق يرتع أهل الباطل، في غيبة أهل الصلاح يرتع أهل الفساد، في غيبة المصلحين يتحكم المفسدون، في غيبة الشرفاء الأطهار يتحكم اللصوص المرتشون، ويتحكم أهل الباطل، يتحكم العابثون بمقدرات الأمة. 
للمشاركة السياسية أهداف عظيمة
إن خوض الحركة الإسلامية الانتخابات البرلمانية وغير البرلمانية كلما أتيحت لها الفرصة لذلك يحقق أهدافًا عظيمة منها: 
أولاً: تثبيت حقهم في المشاركة السياسية، وحقهم في الوجود السياسي كغيرهم من الأطراف السياسية، وكغيرهم ممن يحكمون ويتحكمون، وإسقاط الفكرة الخبيثة القائلة بإقصاء الدين عن السياسة، أو بمنع العمل السياسي والحزبي على أسس دينية.
 ثانيًا: إن من فوائد ذلك أيضًا: تسجيل حضور الصوت الإسلامي بثقافته وأفكاره ومعتقداته ومطالبه في مجال تدبير الشئون العامة للأمة ورفع الظلم والقهر عنها.
 ثالثًا: وإن من فوائد المشاركة كذلك: إتاحة الفرصة للإسلاميين للاحتكاك المباشر مع جماهير الأمة، من خلال الدعاية الانتخابية، ومن خلال تدبير الأمة، ومتابعتها لمن تم انتخابهم.
 رابعًا وأخيرًا: وبالإضافة إلى هذا فإن المشاركة في الانتخابات تمكن أصحابها من تحقيق الخبرات الكثيرة والتجارب والمهارات التي لا يمكن تحقيقها في الانكفاء والانكماش والانعزال عن مجرى حياة الناس ومشاكلها وقضاياها.
 وإن من واجبنا أن نساعد الحركة في إيصال أعضائها؛ ليقوموا بهذا الواجب ليحققوا هذه الفوائد الكثيرة.
 وإن من واجب الأمة ألا تقف متفرجة، وألا تستسلم لليأس والإحباط، وألا تقبل دعاوى اليأس، بحجة أن النتائج محسومة سلفًا، وبأنه لن يستطيع الإسلاميون أن يفعلوا شيئًا، وبأن القوة ورأس المال سوف يحققان أغراضها، وبأن سيكون هناك تزوير وغير هذا.
إن وقوفنا متفرجين وعدم مشاركتنا وهروبنا هو هروب من الميدان، وإن حماية صناديق الاقتراع من التزوير، وحماية إرادة الأمة من التزوير، لا يتحقق إلا بتدافع الجماهير إلى لجان الاقتراع، وإصرار الجماهير على أن تقول رأيها وتدلي بصوتها، وأن تعبر عن إرادتها وتختار من تراه مناسبًا.
وعلى الله قصد السبيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حوار مع التعليقات على الرؤية الشرعية للانتخابات (1)
بقلم: أ. د. عبد الرحمن البر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه واهتدى بهداه، وبعد..
 فيعلم الله أنني جد سعيد بالتفاعل الواسع مع ما كتبتُه تحت عنوان "الانتخابات.. رؤية شرعية"، وتابعته على كثير من المواقع والمنتديات التي اهتمَّت به، مع أن عددًا كبيرًا من المشاركات كان معاكسًا للرأي الذي أبديتُه، لكن سرّ سعادتي هو هذه الحيوية التي أراها تزداد يومًا بعد يوم بين شباب الأمة عمومًا، وبين شباب الإخوان خصوصًا، ولذلك أسجِّل في البداية اعتزازي بهذا الشباب، سواءٌ منهم من وافقني الرأي والرؤية أو من خالفني، وأرجو أن يستمر هذا التفاعل ويتطور وينمو ويفرز بإذن الله قادة فكريين نابهين متميزين، تُحصِّنهم التجارب وتُنْضِجُهم المعارك، وتُقَوِّم أعوادهم الحوارات الجادَّة. 
وليسمح لي إخواني أن يطول حواري مع التعليقات نوعًا ما، وأبدأ بهذه الحلقة الأولى، وأرجو ألا يعجل الإخوة الكرام بالردِّ والمناقشة قبل الانتهاء من هذا الحوار إن شاء الله:  
نظرة عامة للتعليقات
كانت بعض هذه التعليقات مجرد استهزاء بالفكرة و(تريقة) لا أكثر، وأنا لا يشغلني كثيرًا مثل هذه الأمور؛ لأنني أراها هزْلاً في موطن الجد، لا يجب الاشتغال به، وأرى أن مُطْلِقيها ربما أعجزهم أن يجدوا شيئًا مفيدًا يكتبونه، وفي نفس الوقت أَبَوا إلا أن يسجِّلوا حضورًا ببعض الكلمات التي لا فائدة منها، فشكر الله لهم مرورهم، وسامحنا الله وإياهم، ووفقنا وإياهم إلى الجد في مواطن الجد إن شاء الله.
 أما أكثر التعليقات فكانت تعليقاتٍ جادّةً ومحترمةً، سواءٌ ما أقبله منها، وما أرفضه، وأنا أشكر للجميع اهتمامهم ومشاركتهم.
متى كتبت هذه الرؤية؟!
أحب أن أقدم بين يدي هذه التعليقات أمرًا مهمًّا، وهو أن هذه الرؤية لم أكتبها في هذه الأيام، وإنما كتبتُها منذ ما يقارب الست سنوات، وكانت في الأصل محاضرةً صوتيةً، وكتبتُها كما ألقيتُها، ونُشرت على مواقع كثيرة، صوتًا وكتابةً، منذ ذلك الحين، وجرى التعليق عليها، لكن بحدَّة أقل من تعليقات هذه المرة.
 وما يجري اليوم هو مجرد إعادة لنشرها دون أي تغيير، بعد أن تطوعت بعض الصحف بنقل مقتطفات منها إبَّان انتخابات الشورى، ثم قبل انتخابات الشعب، بل إن بعض الصحف- كالعادة- راحت تستطلع آراء بعض السياسيين وبعض علماء الشريعة فيما نَقَلَتْ من مقتطفات، دون أن تعرض لهم الرؤية كاملة. 
وكذلك لاحظتُ أن عددًا كبيرًا ممن علَّق على المقتطفات الصحفية كان يعلِّق على العنوان الذي كتبته الجريدة، دون أن يقرأ التفاصيل.
 لماذا أعيد نشرها في هذه الأيام؟
لكل هذا رأيت أن أطلع الإخوة الكرام على حقيقة ما كتبتُه كاملاً غير منقوص، ودون أدنى تغيير؛ ليعلم الجميع أنني كتبتُ هذه الرؤية قبل أن أكون عضوًا بمكتب الإرشاد، بل لم يخطر ببالي قط يومها أن أكون عضوًا بالمكتب، وكان اختيار إخواني لي مفاجأة حقيقية، أسأل الله الإعانة والتوفيق والقبول.
 ولعل هذا التوضيح يريح قلوب وصدور بعض الإخوان؛ الذين ساء ظنهم بأخيهم الضعيف، فظنوا أنني أكتب هذه الرؤية الآن لتأييد الموقف المحتمل للإخوان بالمشاركة في انتخابات 2010م، وتطوَّعوا- سامحهم الله- بالربط بين ما كتبتُه وما يكتبه شيوخ السلطان أحيانًا؛ لتأييد ما يفكر فيه السلطان قبل أن يجري به قلمُه أو تتحرك به شفتاه. 
ويعلم الله والراسخون في معرفتي أنني لا أرضى أن أبيع ديني بالدنيا وما عليها، وأسأل الله أن يثبتني على الحق حتى ألقاه وهو عني راض، ولم يسبق لي- وأسأل الله ألا يقدر لي- أن أميل عن الحق لأي غرض، وألا يستعملني إلا لخدمة دينه، ونصرة الحق الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يغفر لي ما كان وما يكون من خطأ أو زلل.
 عذر ولوم وتوضيح
وإذا كنت أعذر من لا يعرفني شخصيًّا من الشباب في ظنونه، فماذا أقول للأخ بلال علاء، الذي أعتبره من أبنائي، وأفتح له قلبي وعقلي، وأناقشه فيما شاء من مسائل إذ قال بالنص: "دي عينة مما كان من المفترض أن تقوم به لجنة الفقهاء بإصدار فتوى لكل قرار سياسي فتصبح معارضة الحكومة معارضة للدين"!. 
أقول: سامحك الله يا بني، وأخلف سوء ظنك فيَّ إن شاء الله، وأؤكد لك ولكل من يقرأ: أن معارضة الحكومة- ولو كانت إسلامية مائة في المائة- ليس معارضةً للدين، بل إن معارضة علماء الدين مهما بلغوا من العلم والمكانة ليس معارضةً للدين، شخص واحد فقط في هذه الحياة الدنيا كانت معارضته فيما يقرره ويوجبه معارضة للدين، وهو النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، وبانتقاله إلى الرفيق الأعلى لم يعُد في هذه الدنيا أحد معصوم مهما كانت مكانته وموقعه، وتاريخنا الإسلامي بعامة والفقهي بخاصة يشهد على ما أقول، فقد اختلف العلماء والفقهاء في مسائل كثيرة في أصول الدين وفروعه، فلم يعتبر أحد ممن يعتد به من الأئمة أن مخالفة الآخرين له تعد معارضة للدين.
 فليهدأ أخي- وابني إن قَبِل- بلال وإخوانه نفسًا، ولتطمئن قلوبهم أن هذا الذي يتخوفون منه لا وجود له في عقلي أولاً، ثم لا أعلم له وجودًا في أذهان من أعرف من إخواني العلماء، ولا وجود في الحقيقة (والعلم عند الله) إلا في أذهان من يريدون تخويف الناس من المشروع الإسلامي، ولعل في هذا التوضيح كفاية.
 شكر وتقدير
وفي المقابل فقد دلَّني أحد الإخوان على محاضرة صوتية لأحد الإخوة العلماء على موقع (أنا سلفي) وهو الأخ الشيخ عبد المنعم الشحات؛ الذي قام بمناقشة ما قدمتُه في هذه الرؤية مناقشة علمية، اختلف معي في أكثر ما قلته، لكنه كان في غاية الأدب والاحترام في المناقشة، وأنا أسجِّل شكري له على هدوئه وحسن مناقشته، وإن اختلفنا في التقدير والتكييف الشرعي لكثير من المسائل، لكن الشكر واجب، وهذا نموذجٌ مما أحب أن يكون عليه الشباب عامة والإخوان المسلمون خاصة في مناقشة أية قضية شرعية؛ أن نناقشها نقاشًا علميًّا راقيًا، سواء توافقنا أو اختلفنا، فإن أكثر ما يضيع الحق هو (التريقة) والصراخ، والصوت العالي، والنفس الحادة في المناقشة.
 كما أسجِّل شكري للأخ الكريم الشيخ عصام تليمة؛ الذي أرسل لي قبل يومين رسالة بعنوان (إلى الدكتور البر: ما هكذا تورد الإبل) نصح فيها بشكل جاد، واختلف معي اختلافًا لا يسعني إلا احترامه، مع أن مقاله لم يغيِّر شيئًا لديَّ، وسيأتي التوضيح لما ذكره في أثناء هذا الحوار إن شاء الله، لكن الإنصاف يقتضي شكره على أدبه العالي في الخطاب. 
وكذلك أشكر إخواني الكرام الدكتور محمد نور (نور دنت) والأخ (مجدد الدين) وغيرهم كثير ممن قدَّم رأيه الذي رآه من وجهة نظره، وإن خالفتهم في بعض ما ذهبوا إليه، وسيتضح ذلك في الحوار إن شاء الله. 
هل تغيرت قناعاتي؟
لكن هل معنى أن هذه الرؤية كانت قبل ست سنوات أنني غيَّرت شيئًا من قناعاتي ورؤيتي التي مضى عليها كل هذا الوقت؟ 
الحقيقة: أنه لم يتغير لديَّ شيء قط، ولهذا نشرتها كما كتبتها قبل ست سنوات تقريبًا.
 الجديد: هو أنها تُنشر في هذه الأيام وصاحبها قد صار عضوًا بمكتب الإرشاد، وهذا بلا شك، جعل لها حيثية جديدة تجعل الاهتمام بها غير ما سبق. 
وأرجو مرةً أخرى ألا يتسرَّع الإخوة باللوم والرد قبل أن يقرءوا توضيحاتي التي سترد في أثناء هذا الحوار إن شاء الله. 
وقد كشفت التعليقات لي عن كثير من الحقائق، من أهمها: أنك قد تتكلم أو تكتب فتظن أنك قد أوضحت غاية الإيضاح وأَبَنْتَ منتهى الإبانة، ثم يتضح لك أن الآخرين لم يفهموا كلامك على النحو الذي تريده، أو حمَّلوه من المعاني ما لا يحتمل وما لا تقصد، أو تركوا الفكرة الأساسية التي يدور حولها الكلام، وانشغلوا بعبارة محتملة هنا أو هناك، وأننا بحاجة- كما قال الأخ محمد الشيخ- إلى الاقتراب أكثر من النخبة- بل من الجميع- ليعرفوا حقيقة أهدافنا وأفكارنا. 
وأنا هنا أتكلم عن غالبية المعلِّقين، دعك من المتربصين الذين يبحثون في ثنايا الكلام عن خطأ غير مقصود أو عمَّا يمكن اعتباره خطأ، فهؤلاء لا يجدي معهم حوار، ولا يمكن أن يحصل معهم غير المراء المذموم الذي نُهينا عنه، وأتوجه مع أخي د. مصطفى شلبي: إلى الذين يحرصون على التشكيك في نوايا الإخوان وتسفيه آرائهم بالمشاركة في الانتخابات: أنتم أحرار فيما تدلون به من آراء، ولكن لماذا تصادرون الرأي في أن يكون للإخوان رؤيتهم وقرارهم، وهم أكبر فصيل معارض في الساحة المصرية؟! 
الفصل بين الدين والسياسة
أما أهم ما يمكن أن أكون قد تفاجأت به فهو ما لمسته من بعض الكتابات التي يبدو على أصحابها أنهم من شباب الإخوان، يرون أن الرؤية (أو ما سموه الفتوى! وسأعود لهذا فيما بعد) هي ثمرة من ثمار خلط السياسة بالدين!! كما ذكر الأخ (مجدد الدين) وغيره. 
فهل هذا هو التجديد يا أخي الكريم؟ مَنْ ذلك الذي فصل السياسة عن الدين، وجعلهما نقيضين لا يجتمعان؟ وفي أي مدرسة فكرية إسلامية تعلمتَ أن السياسة ليست من الدين؟ وماذا نصنع بآيات الحكم والقضاء، وآيات البيع والشراء، وآيات الصلح والمعاملات.. إلخ.
 إننا- أخي الكريم- نفهم الإسلام دينًا شاملاً، والسياسة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه، وندعو إلى ذلك، وما دفعك- فيما أظن- إلى هذه الجملة العجيبة إلا ظنك بي أنني أبحث عن مبرر ديني لموقف سياسي تتخذه الجماعة، وليس له أصل شرعي، فإن كان الأمر كذلك فسامحك الله على سوء الظن، وإن كان الأمر أنك ترى بالفعل أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، وأن ما يسمى (الخلط) بين الدين والسياسة قد أفسد الدين وأفسد السياسة، كما يزعم البعض، فهذا من وجهة نظري (خلط) في الفهم لحقيقة الدين.
 والحقيقة أنه ما أفسد الدين والسياسة إلا أمران: الاستبداد السياسي من القادة، والنفاق العملي (وليس الاعتقادي حتى لا يساء تفسير الكلام) وسوء العرض من بعض الشيوخ، وفي ذلك قيل: "صنفان إذا صلحا صلح الناس: الأمراء والعلماء".
 وقد أثَّرت تصرفات كثير من أهل الحكم وكثير من أهل العلم في تشكيل صورة غير صحيحة عن حقيقة الدين، فخرج منها هذا (الخلط) الذي يفصل بين الدين والسياسة.
 ودعني أقول في المقابل- وهذا رأيي الذي أعتقده بحق-: ما أفسد حياة الأمة إلا إقصاؤها لحقيقة الدين عن كثير من المجالات، وأهمها السياسية، وإقصاؤها لكثير من العلماء المخلصين عن التواصل الفعال والمؤثر في المجتمع.
 وهذا الكلام ذاته أوجهه للأخ (سامر محمد كامل) الذي كَتَبَ في "نافذة مصر" تعليقًا جميلاً، لكنه يحتاج إلى (تفنيط) ومراجعة، وعدم الخلط بين ممارسات بعض علماء الدين وبين الدين نفسه، وأذكِّر الجميع بأن المصالح المرسلة هي إحدى مصادر الحكم الشرعي، وهي المصالح التي لم يقم دليل على اعتبارها ولا دليل على إلغائها، فالعبرة فيها بكونها مصلحة، والشريعة تعتبرها مصدرًا من مصادر الحكم الشرعي، وإن كانت في رتبة متأخرة عن المصادر والأدلة الأخرى، ولا يعني هذا خلطًا بين الدين والمجال الذي ظهرت لنا فيه المصلحة؛ لأن الأصل أن المسلم يبحث عن الصواب المتفق مع الشريعة أو غير المعارض لها في كلِّ تصرفاته.
على الهامش:
الأخت الكريمة د. هبة رءوف عزت: كتبت في موقع "الفيس بوك" تعليقًا على مقالتي (عفوًا أستاذ فهمي مصلحة الجماعة هي مصلحة الوطن) تقول: إن قولي: إن مصلحة الجماعة هي مصلحة الوطن يحتاج لتأمل طويل وبعض التذكير بفضيلة التواضع وتقول: "لو أنه (تعنيني) قال: هذا تقديرنا وقد نصيب وقد نخطئ لكان أفضل".
 وأنا أقول يا سيدتي الكريمة: هذا تقديري وقد أصيب وقد أخطئ، وجزاك الله خيرًا على التذكرة، وسلامتك من كل ما ينغص عليك، فالأمة- وهذا تقديري وقد أصيب فيه وقد أخطئ- بحاجة إلى العقول الراشدة الواعية من أمثالك لتوضيح المفاهيم وتصحيح المسيرة، وتقبلي أسفي إذا كان كلامي (من غير قصد مني طبعًا) قد سبب لك شيئًا من النكد بعد يوم عمل شاق، أسأل الله أن يكون في ميزان حسناتك، وأرجو ألا يؤثر الاختلاف في الرأي على سلامة الصدور.. دمت بخير.
لكن ما أردتُه يا سيدتي الكريمة من التعليق على مقال الأستاذ فهمي: أن كل أهداف الإخوان (كجماعة) في خوض الانتخابات أو في مقاطعتها تصبُّ في النهاية في مصلحة الوطن، فتأكيد حضور الجماعة الفاعل، واكتساب المشروعية القانونية والحكومية، وغير ذلك هو في النهاية لمصلحة الوطن، ولا يخفى على سيادتك أن أستاذنا الأستاذ فهمي حين يستخدم (أم) المعادلة في المقال (مصلحة الجماعة أم مصلحة الوطن) فإن ما سيقع في الذهن أن للإخوان أهدافًا تناقض مصلحة الوطن، أو على الأقل يمكن المقايضة عليها بمصلحة الوطن، وهذا ما أردتُ أن أنفيه عن الإخوان (كجماعة).
 أما أن يكون بين الإخوان من الأفراد من يبحث عن مصالح خاصة؛ فهذا ما لا أملك ولا يملك غيري إثباته أو نفيه عن شخص بعينه؛ لأن العلم عند الله، والآية التي ذكرتيها ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ﴾ (آل عمران: من الآية 152) ذكر ابن مسعود رضي الله عنه أنهم لم يكونوا يعلمون أن فيهم من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.
 وأنا أقول: قد يوجد هذا وذاك، لكني أتحدث عن الأهداف التي تتوخاها (الجماعة)، ولا أظن في ذلك شيئًا من الكِبْر ولا من التعالي ولا من الترفُّع عن المراجعة والمحاسبة، فلا معصوم بعد الأنبياء والرسل، ولا أحد أكبر من الخطأ، ولا أحد أقل من الصواب، وأسأل الله أن يلهمنا رشدنا.
حوار مع التعليقات على الرؤية الشرعية للانتخابات (2)
هل المسألة سياسية بحتة:
يجرنا الكلام السابق إلى فكرة تكررت في كثير من التعليقات بشكل واضح، وعبر عنها بوضوح الأخ الشيخ عصام تليمة الذي رأى أنني أسبغت عباءة الشرع على توجهي (هكذا يرى!) في أمر سياسي بحت يجب أن نتركه لأهل الذكر فيه، وهم أهل السياسة، ولا نقحم الشرع فيه!.
 وأنا أوافق من حيث المبدأ على القول بوجوب سؤال أهل الذكر في كل مجال قبل الإفتاء فيه، وقد كان الأئمة الكرام يأتون الأسواق وينزلون إلى أصحاب الصنائع ليعرفوا حقيقة المسألة، حتى تأتي فتاواهم منطبقة على واقع الأمر.
 لكن هل معنى ذلك أن نترك أهل الذكر في المجالات المختلفة يفتون لأنفسهم؟، أم أن سؤالهم هو لمعرفة الحقائق، ثم تكون الفتوى لأهل الذكر من العلماء؛ لبيان مدى توافق المعاملة مع الشريعة أو عدم توافقها؟.
 وماذا فعلت أنا في هذه الرؤية إلا أنني نقلت فوائد المشاركة ومفاسد المقاطعة التي قرأتُها وسمعتُها ولمستُها بنفسي من خلال أكثر من ثلاثين سنةً في ميدان العمل العام، ومنه السياسي والدعوي (أم لا يصلح أن يكون من أهل الذكر في الميدان السياسي إلا من تخرج في العلوم السياسية؟)، ثم كان رأيي بناءً على هذا أن المشاركة واجبة في الأصل، وأن المقاطعة ما لم تكن هناك مصلحة شرعية معتبرة تعد هروبًا من المسئولية (ودعني هنا أسحب عبارة: "أشبه بالتولي يوم الزحف"، حيث أسيء فهمها، ولست في وارد الدخول في جدل لفظي أو فقهي حولها ليس هذا وقته ولا مجاله).
 غير أن ما أخشاه أن يفهم من كلام الأخ الشيخ عصام وغيره أن معنى (فاسألوا أهل الذكر) ترك الفتوى في كل مجال لأهله، وعدم إقحام الشرع وعلماء الشريعة في المجالات المختلفة؛ بحيث لا يبقى لهم ما يفتون فيه ويتكلمون عنه إلا العبادات المحضة، وهذا أقصى ما يطمح إليه كل الداعين إلى فصل الدين عن واقع الحياة, وغالب ظني- الذي يقارب اليقين- أن الأخ الشيخ عصام وغيره لم يقصدوه، لكنه مؤدى القول بعدم إقحام الشريعة في الموضوع، وعدم إقحام علماء الشريعة أنفسهم في الموضوع.  
والعجيب أن الأخ الشيخ عصام في (خامسًا) يعود فيقول: "إن المقال يؤصل لشرعية المشاركة في الانتخابات على وجه العموم، كوسيلة إصلاحية، وهو ما لم يعد أحد ينكر شرعيته"، فهو من الأمور التي تكلم فيها علماء الشريعة إذًا؟ فعلام الإنكار على شخصي الضعيف إذا سرت على درب العلماء الشرعيين الذين تصدوا لهذه القضية؟ 
وأسجل تحفظي على القول "وهو ما لم يعد أحد ينكر شرعيته" فهذا إطلاق مبالغ فيه، ولا يزال نفر غير قليل ينكر شرعية الانتخابات، وقد كان ذلك أحد أهم الأسباب التي دفعتني لكتابة هذه الرؤية. 
وجوب المشاركة هو الأصل:
هنا أقول لكثير من الإخوة الذين علقوا بأن القضية دائرة بين الصواب والخطأ (ودعوني أعبِّر بالتعبير الفقهي: بين الجواز وعدم الجواز، أو بين المشروعية وعدم المشروعية): هذا رأيكم وهو يوافق رأي كثير من أهل العلم القائلين بجواز المشاركة في الانتخابات، باعتبارها لا تصادم الشريعة، ومستندهم في الغالب هو أنها أمر مستحدث خاضع لأصل الإباحة، ولم يتعرض أحد لنقض الوجوه التي قال بها القائلون بالوجوب. 
لكنني مع القائلين بأن المشاركة واجبة، وقد سقت كثيرًا من الأدلة في عرض الرؤية، ومن أراد أدلة أكثر فليراجع كتاب أخينا وشيخنا الأستاذ الدكتور صلاح سلطان "مشاركة المسلمين في الانتخابات الأمريكية.. وجوبها وضوابطها الشرعية". 
ولست أول من قال بالوجوب، وسأكتفي هنا بذكر مختصرات من أقوال أئمة كرام وفقهاء عظام، لست أكثر من تلميذ بالنسبة لهم:  
قال شيخ الأمة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
"... ومن تخلف عن أداء واجبه الانتخابي حتى رسب الكفء الأمين وفاز بالأغلبية من لا يستحق ممن لم يتوفر فيه وصف القوي الأمين؛ فقد خالف أمر الله في أداء الشهادة، وقد دُعِي إليها وكتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ (البقرة: من الآية 282)، ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ (البقرة: من الآية 283)".
 وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:"أنا أرى أن الانتخابات واجبة, يجب أن نعين من نرى أن فيه خيرًا، لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر! أو الناس السلبيون الذين ليس عندهم لا خير ولا شر, أتباع كل ناعق, فلا بد أن نختار من نراه صالحًا.
 وقال المستشار فيصل مولوي حفظه الله وشفاه:
"وأرى أن المشاركة في الانتخابات تعتبر نوعًاً من الجهاد الأكبر لأنها:1- جهاد، ففيها بذل جهد كبير لخدمة الإسلام والمسلمين، أو رفع بعض الضرر عنهم، أو إزالة بعض المنكرات من حياتهم، ضمن حدود المستطاع.
  2- وهي جهاد أكبر، لأنها فريضة الوقت كما يقول العلماء.
 فقضية الإسلام اليوم هي انحراف الحكام عن دين الله، والجهاد الأكبر هو في إصلاحهم أو استبدالهم، والمشاركة في الانتخابات هي الوسيلة المعاصرة لذلك، وهي في حدود المستطاع.
 أما الجماعات الإسلامية التي لا تشارك في عمليات الانتخابات فقد فاتها القيام بهذا الواجب، وأمامها واجبات أخرى كثيرة تستطيع أن تقوم بها إن أرادت، لكنها ليست بديلاً عن واجب المشاركة في الانتخابات في رأينا، ولا تزيل عنهم إثم التخلف عن هذه المشاركة، فالقيام بواجب له أجره، والتخلف عن واجب له إثمه ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) (الأنبياء)، والله أعلم".
ويقول الأخ الفقيه الأصولي الأستاذ الدكتور صلاح سلطان:
 إنها (يعني المشاركة في الانتخابات) تعد ضرورةً واقعيةً وفريضةً شرعيةً، حتى لو كانت الدولة تزور تلك الانتخابات، فلا يكن التزوير سببًا في تخلي المواطن عن أن يدلي بصوته". وقد ذكر فضيلته أدلة الوجوب ووجه الدلالة التي ذكرتُ كثيرًا منها في رؤيتي، ثم قال: "لهذه الأدلة الشرعية والاجتهادات الفقهية والأسباب العقلية والشواهد الواقعية يبدو لي وجوب المشاركة الانتخابية، وأن يشارك كل مسلم في كل الانتخابات الرئاسية والنيابية والبلدية والجامعية والنقابية وغيرها".
 وبعد أن استعرض الأستاذ محمد أحمد الراشد.. الأوضاع العالمية وحكم المشاركة في الانتخابات في البلاد الغربية، قال:  "ولذلك كله أرى، وبالمقدار الذي حصل لي بحمد الله من الموازين والعلوم الشـرعـية والفقه الإيماني: أن إدلاء المسلم بصوته الانتخابي لمرشحي التيارات المعتدلة في البلاد الغربية النصرانية صار في عداد الواجبات الإسلامية"، مؤكدًا أنه اعتمد في ذلك على ما قاله الشيخ الفقيه الأصولي الدكتور عبد الكريم زيدان.
 فإذا كانت المشاركة في البلاد الغربية واجبة، أليس وجوبها أولى في البلاد الإسلامية؟.
هذا رأيي:
هذا- إذًا- رأيي ورؤيتي التي لم أنفرد بها، ولم أكن أول من قال بها، قدمتُها في قضية المشاركة في الانتخابات بشكل عام، اقتنعتُ بهذا، ولا أزال مقتنعًا به، وهو صواب يحتمل الخطأ، ولا أصادر على غيري رأيه، وديننا العظيم لا يعرف الكهنوت، ولا يعرف الشيخ أو العالِم الذي لا يجوز أن تُعَارَض فتواه أو ينقد ويُنْقَض رأيُه.  
كما أن هذا الرأي المبني على الاجتهاد والنظر في الأدلة والوقائع قابل للتغيير، إذا ظهر لصاحبه من الأدلة وبان له من الفهم والمعرفة ما يمكن معه تغيير القول من الوجوب إلى الجواز، بل إلى القول بالمنع، متى كان ذلك مبنيًّا على الأدلة؛ لا على الهوى، وليس ذلك تلونًا ولا مراوغةً، بل دوران مع الحق ومتابعة للدليل، وهذا إمام الأمة وناصر السنة الإمام الشافعي كان له مذهب قديم ومذهب جديد، ولم يكن ذلك تلونًا منه ولكنه تفاعل شرعي مع الأدلة وما يستجد من معرفة ووقائع، وهذا أمير المؤمنين الخليفة الفقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفتى في مسألة، ثم سئل فيها بعد ذلك فأفتى برأي آخر، فلما روجع قال: "ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي".
 الحكم الشرعي الثابت والمتغير... : لم أكن أتصور أنني سأضطر للدخول في بعض المسائل العلمية والأصولية الدقيقة، لولا أنني رأيت بعض إخواني من الشباب دخلوا في عمق بعض القواعد الأصولية والفقهية، ولشد ما أسعدني هذا، وإن كان التناول في كثير من الأحيان (فطيرًا) في حاجة إلى عمق ودراسة، لكن المشاركة والحوار ربما ساعدا في الدفع إلى التنمية في هذا المجال، وهذا بحد ذاته مكسب عظيم، وأرجو أن أسعد برؤية عدد كبير من الفقهاء المتميزين النابهين المستكملين لأدوات الفقه والمعرفة.  
هذه مقدمة لأقول: من البدهي لدى دارسي الشريعة أن ثمة فارقًا بين الحكم الشرعي المطلق الثابت بنصوص محكمة لا تقبل التغيير، والحكم الشرعي المبني على علة يدور معها وجودًا وعدمًا، أو المبني على فهم واستنباط ونظر في النصوص، فالأول غير قابل للنقض أو التغيير بأي حال، والثاني يمكن أن تتفاوت فيه آراء أهل العلم، بل يمكن أن يتغير فيه رأي الفقيه الواحد، وقد عقد الإمام ابن القيم فصلاً استغرق أكثر من مائة صفحة في كتابه القيم "إعلام الموقعين عن رب العالمين" بعنوان: "تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان".  
وهذا كله خلاف الفتوى التي ينظر فيها الفقيه إلى الواقع ومدى انطباق الحكم الشرعي على الوقعة محل الاستفتاء وتنزله عليها، وفي هذا الصدد فربما أفتى الفقيه في المسألة الواحدة فتاوى مختلفة؛ لاختلاف السياق أو الأشخاص أو الظروف المحيطة بكل مسألة، أو الأزمنة التي عرضت فيها.
 فمثلاً: الحكم الشرعي غير القابل للنقض في الربا: أنه حرام، فإذا جاء شخص يستفتي في معاملة معينة، فإن واجب المفتي أن يعرف حقيقة المسألة، ثم ينظر هل تنطبق عليها حقيقة الربا؟، فعندئذٍ يفتي بحرمة تلك المعاملة، أو أنها لا تنطبق عليها حقيقة الربا؟، ومن ثم لا يجري عليها حكمه.
 وفي المسألة محل الحوار وهي الانتخابات: نرجع إلى أصول الشريعة فنرى أن الإيجابية وممارسة الحسبة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلها واجبات شرعية، والانتخابات إحدى الوسائل المعاصرة التي يتحقق بها هذا الأمر، والغياب عنها يؤدي إلى المفاسد التي ذكرتها أثناء عرضي للرؤية وذكرها غيري، ومن ثم تأخذ المشاركة فيها حكم الوجوب، بشكل عام.
 فإذا جاء السؤال عن انتخابات بعينها، كأن يسأل سائل عن انتخابات مجلس الشعب المصري في 2010، فهنا يلجأ الفقيه إلى النظر في المصالح والمفاسد المتوقعة من كل من المشاركة أو المقاطعة في هذه المرة؛ لا في أصل وجوب المشاركة، فإن ظهر له بعد البحث والفحص وتقليب الآراء واستشارة العقلاء أن تحقيق المصالح ودفع المفاسد أكثر تحققًا بالمشاركة صارت المشاركة هذه المرة واجبة، وإذا بدا له في هذه المرة أو في غيرها أن المصالح المرجوة لن تتحقق والمفاسد المتوقعة لن تدرأ بالمشاركة صارت المقاطعة هي الواجبة. 
وهذا عين ما أرى أن الإخوان المسلمين يفعلونه، فالأصل عندهم المشاركة في كل انتخابات، ولكن أمام كل استحقاق انتخابي يتم تقييم الموقف واستشارة الإخوان واستمزاج رأي المفكرين وأهل الرأي، وعندئذ ينزلون على الرأي الغالب، سواء بالمشاركة أو بالمقاطعة؛ تحقيقًا لمعنى الشورى، والتماسًا لبركة الاستشارة. وقد يوافقهم في هذا غيرهم أو يخالفهم، وهم لا يكرهون أحدًا على ما استقرت عليه نتيجة الشورى عندهم، ولا يقبلون أن يلزمهم أحد بخلاف إرادة الأغلبية الإخوانية التي قالت رأيها. .. أرجو أن يتفهم هذا الذين سألوا عن مقاطعة الإخوان لانتخابات 1990، أو مقاطعة إخوان الأردن للانتخابات الأردنية، فأهل مكة أدرى بشعابها، ولكل وجهة هو موليها.


 لا ضرر من الاختلاف ما لم يكن اتباعًا للهوى:
يجرنا هذا إلى الحديث عن (الحرج) الذي يرى بعض الإخوان الكرام أنهم يقعون فيه حين نقول بوجوب المشاركة وتأثيم الامتناع، إذ يرى هؤلاء الأحبة أن القول بذلك يصادر الرأي الآخر، وهو ما اعتبره البعض كارثة!!. 
وأقول: هذا الفهم خطأ، بني على مقدمة خطأ، إذ يرى البعض أن مخالفة عالم في فتواه أو جماعة في رأيها الشرعي هو مخالفة للدين، وبالتالي فيجب عدم المعارضة، وعلى هذا فالقول بالوجوب أو الحرمة تكميم للأفواه ومنع لإبداء رأي مخالف.  
وهذا من القضايا التي يلح عليها الداعون لفصل الدين عن واقع الحياة، إذ يرون أن الدين مطلق، ووقائع الحياة نسبية! ويجب ألا يتحكم المطلق في النسبي، حتى لا يقع الناس في الحرج والضيق، وبالتالي فيكفي أن يكون الدين علاقة بين العبد والله تمارس في المسجد وفي داخل النفس فقط، فهل هذا صحيح؟!.
 الحقيقة أن هذه الفلسفة خلط (أكاد أجزم أنه غير بريء)، ففي الدين ما هو مطلق وما هو نسبي، ومن أحكامه ما هو ثابت لا يتغير، ومنها ما هو دائر مع مصلحة العباد، كما سبق أن بينت من قبل. ولهذا وجدنا المذاهب الفقهية تختلف في نحو ثلاثة أرباع المسائل في العبادات والعادات، دون أن يقول أصحاب أحد المذاهب: إن فتوى المذهب الفلاني بوجوب كذا أو تحريمه مصادرة للرأي على الإطلاق، ولم أقف- في حدود علمي- على وجود لهذا الخلط الفلسفي الذي يروّجه البعض هذه الأيام؛ لتخويف الناس من الشريعة الإسلامية ومحاولة فض الجماهير من حول الداعين إليها. ولا أحب أن أمضي في هذا الجدل الفلسفي الذي لا أصل له في كلام الفقهاء والعلماء، ولم نسمع به إلا في كتابات بعض الكتاب المحدَثين، فلهذا مجال آخر. 
الاختلاف في الفتوى لا يعني بالضرورة حيرة الناس:
يتلطف البعض- كما فعل أخونا الشيخ عصام وغيره- فيقول: إن العالم إذا أصدر فتوى بوجوب المشاركة، وأصدر آخر فتوى بوجوب المقاطعة؛ وقع الناس في الحيرة، وصار الدين- على غير الحقيقة- سببًا للحيرة، بدلاً من أن يكون سببًا للهداية.
 وأقول لإخواني: رفقًا بأنفسكم وبالأمة، فالاختلاف بين العلماء لا مفر منه، ولا سبيل لمنعه، ولا خوف منه على الإطلاق، إذا صحت النيات، ولم تكن الفتاوى على سبيل المكايدة أو مبنية على الميل مع الهوى، ففي كثير من المسائل خالف أبو حنيفة مالكًا، وخالف الشافعي كليهما، وخالفه أحمد، وخالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وخالفه غيره، وكان ذلك في مسائل من أصول الدين وفروعه أهم بكثير من موضوع الانتخابات، ومع ذلك لم تنزل بالأمة كارثة، ولا حاقت بها الحيرة، بل كان الاختلاف إثراءً للفقه والفكر وتوسعةً على الأمة.  
بل غالب مسائل الدين فيها اختلاف، والعبرة بأن يكون الاختلاف مؤسسًا على علم وفقه ودلائل شرعية ومقصودًا به طلب الحق وابتغاء وجه الله، وليس قائمًا على الهوى الشخصي والميل النفسي، وعلى المختلفين أن يعذر كل منهما الآخر، ولا يلزم أحدهما أن ينزل عما يراه أصح بحجة حماية الناس من الوقوع في الحيرة.  
وأما العوام (وهم غير المتخصصين في علوم الشريعة وغير القادرين على الاجتهاد والنظر الشرعي) فيسعهم أن يقلدوا من يثقون بدينه وأمانته وعلمه وكفايته، فإن تساوى المفتون في ذلك فله أن يقلد أيًّا منهم حتى يجد من يترجح لديه كفايته العلمية والأخلاقية، ولا حرج في ذلك على الإطلاق، ولم تزل الأمة تختلف ﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ.... (هود). أليست هذه إحدى صور حرية الرأي الناضجة النافعة التي تدل على أن تحكيم الشريعة في كل المجالات يفتح آفاقًا رحبةً للاجتهاد والنظر وحرية الرأي، وتدحض قول القائلين: إن إقحام الشريعة في المجال العام يسبب الحرج للأمة.
 لو أننا في كل مسألة يختلف فيها أهل العلم قلنا: لا داعٍ لذكر الراجح، ولا داعٍ لاستخدام ألفاظ الوجوب والتحريم والتأثيم ونحوها واكتفينا بعرض الآراء فقط، لكُنا مضرب المثل في التضييع والتمييع.  
لهذا لا أجد أدنى حرج من إبداء رأيي في تأييد القول بوجوب المشاركة في الانتخابات متى كان في ذلك مصلحة شرعية معتبرة واجبة، كما لا أجد أدنى حرج في القول بالمقاطعة إذا اقتنعت بأنها التي تحقق المصالح الشرعية، وإذا تغيرت الظروف.
 فلو فرضنا مثلاً: أن الحزب الوطني وحكومته البائسة منعت بالتسلط والقهر والتحايل المرشحين الإسلاميين من الترشح للانتخابات فسيكون من البدهي الدعوة إلى المقاطعة. 
وفي ختام هذه الحلقة أقول للذين يقولون: الانتخابات ليست الباب الوحيد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلماذا التمسك بها؟ 
نعم ليست الباب الوحيد، ولا يصح لأحد أن يقول بذلك، وقد ذكرت ذلك في عرضي لرؤيتي، والسؤال: إذا كانت أحد أهم الأبواب المؤثرة فلماذا التخلي عنها؟  
حوار مع التعليقات على الرؤية الشرعية للانتخابات )3( 
لست مفتي جماعة الإخوان:
كثر استخدام لقب (مفتي الإخوان) على ألسنة عدد من الصحفيين كلما نقلوا شيئًا عني، مع كثرة تنبيهي على كل صحفي يسألني عن شيء على أنني لا أحب استخدام هذا اللقب؛ لأنه غير صحيح فلست مفتيًا للإخوان وفي الحديث: "المتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ"، وليس في الجماعة ولا في هياكلها ما يسمى (المفتي) مثلما قال أخي الشيخ عصام في تعليقه، ولست سوى أحد طلاب العلم من الإخوان، والجماعة مليئة بالعلماء الفضلاء في مختلف التخصصات الشرعية، والإخوان يستفتون كل العلماء الكرام سواء كانوا من الإخوان أو لم يكونوا، ولا يجدون أدنى حرج في شيء من ذلك، بل احترام عموم الإخوان لعموم العلماء من المعلوم بالضرورة من حال الإخوان وتوجيه قياداتهم، ولذلك فأنا أرفض وبأعلى الصوت وصفي بهذا اللقب، وأرفض دائمًا اعتذار الصحفيين بأنهم لا دخل لهم في هذا باعتبار أن (الديسك) هو الذي يصِّر على هذا.
 وبهذه المناسبة فإنني أضيف بعض المعلومات للقارئ الكريم فيما يتصل بوظيفة (المفتي) التي لم تكن موجودة في التاريخ الإسلامي قبل الدولة العثمانية، حين عين السلطان العثماني مراد الثاني أولَ شيخ للإسلام، وأولَ مفتٍ للسلطنة الذي كان المرجع الأعلى للأوقاف الإسلامية ودوائر الإفتاء، وكانت وظيفته تتعلق بتقرير الشهور الهجرية بداياتها ونهاياتها ودخول رمضان والحج وغير ذلك.  
ولا يزال هذا التقليد ساريًا، وأصبحت دار الإفتاء التي يرأسها المفتي تابعة لوزارة العدل، وهي مؤسسة واحدة في الدولة، منعًا للتضارب، وفي الحالة المصرية فإن المفتي هو العالم الجليل فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة، ولا نعترف بغيره مفتيًا عامًّا.  
أما مثلي وغيري من أهل العلم فنحن نجيب عما نُسأل عنه، ونفتي فيما استُفتينا فيه مما عندنا منه علم، من غير أن يُلَقَّب أيٌّ منا بلقب (المفتي).
 أرجو بعد هذا البيان أن يكون الأمر قد اتضح فيما يتعلق بهذا اللقب، وألا يحمل أحد كلامي في أية مسألة شرعية إلا على أنه رأيي الذي كوَّنْتُه من خلال البحث والدرس، فصَفْوُه للمستفيد منه، وكَدَرُه عليَّ شخصيًّا، وما أصبتُ فيه فمن فضل الله عليَّ، وما أخطأتُ فمن نفسي ومن الشيطان.  
الأسئلة الأغلوطات:
مع جودة الحوار فإن بعض الإخوة تقدَّم ببعض الأسئلة، لا على سبيل الاستفهام، إذ إجابتها ليست في حاجة لاجتهاد على الإطلاق لوضوحها، ولكن بعضها على سبيل التعنيت والسخرية، ومثل تلك الأسئلة لا ينبغي أن نضيع الأوقات بالرد عليها.  
على أن بعض هذه الأسئلة يصح أن نطلق عليها (الأسئلة الأغلوطات)، وقد جاء النهي عنها في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الأسئلة التي تُوجَّه إلى العالِم لاستسقاط رأيه ومجادلته، وربما لوضعه في حرج من نوع ما مع شخص أو طائفة يتوقع السائل أن العالِم قد يخشى تغيرها عليه إذا قال كلمة الحق، وإذا لم يقل كلمة الحق وُصف بالنفاق، وإذا لم يكن عنده علم عما يسأل عنه وصف بالجهل.  
وأخشى أن تكون أسئلة الأخ (نور دنت) من هذا النوع، فقد تعرّض في أسئلته لبعض الممارسات التي يمارسها بعض الإخوان أثناء العملية الانتخابية، ولا أظن أنه يريد أن يسأل عنها ليعرف الحكم الشرعي فيها، بقدر ما أنه يريد أن نقول له: هذا سلوك خاطئ، فيقول: إن الإخوان يفعلونه وعليكم أن تصححوه للإخوان، وإن سببه خلط الدين بالسياسة ودخول الدين فيما ليس من مجاله، ونحو ذلك
أرجو أن يكون ظني هذا في غير محله، ولكن دفعني لهذا الظن- الذي أرجو أن يكون مخطئًا- أنه بعد كل التوضيحات التي قدمتُها لا يزال مُصرًّا على كل الأسئلة العشرة التي بعضها لا علاقة له مباشرة بالموضوع محل النقاش، وبعضها الآخر وردت الإجابة عليه أثناء الحوار مع التعليقات، ويصر- بعد أن أوضحتُ وأبَنْتُ- أن يكرر قوله لي:  
"أحذِّر شخصك المرموق من أن نستخدم الدين من أجل أغراض سياسية أو هكذا نظهر للناس وهكذا يفهموننا.. وأتمنى من حضرتك ومن الجميع أن نقف وقفة واحدة للتفكر في هذا الكلام فليس كل ما يقال عنا هو محض افتراءات أو من أجل الأغراض، فلنحكّم عقولنا وشرع ربنا قبل أن نلج ونطأ موطئًا صعبًا من الدين وهو مسئولية العلماء الذين نحسبك منهم، وبكلامك في هذا الموضوع وبهذا العنوان ستدفع شبابًا كثيرًا لأعمال واستقواءات بالنصوص وإسقاطاتها.. 
فإن كنت راسخًا مما تقول متيقنًا شرعًا مما ذكرت فتوكل على الله واعلم خطر كلمة العالِم فهو من الموقعين عن رب العالمين كما وصفهم ابن القيم، وهكذا يراهم الناس وفقنا الله وإياك لما تحبه وترضاه". 
لئن قبلتُ منك- أخي الكريم- هذا الكلام في بداية المناقشة؛ فلا أتصور أنه يُقْبَل أن يُعَاد بحروفه مرةً أخرى بعد المناقشة، إلا إذا كنت لم تقرأ توضيحاتي في الحلقتين الأولى والثانية من الحوار مع التعليقات.
 وحتى إذا كنتَ قرأتَ توضيحاتي ولم تَرُقْ لك أو لم تقتنعْ بها فلا أظن أنه من المقبول أن تعيد كتابة نفس العبارات، كما لو لم أكن قلتُ شيئًا، وكذلك أنصحك ألا يكون هذا أسلوبك في تقديم الأسئلة لأهل العلم؛ حتى لا يسيء أحد فهم مقاصدك من الأسئلة
ومع ذلك وحتى لا يخطر ببالك أو ببال غيرك أنني أقول هذا تهربًا من الإجابة على أسئلتك، فإنني أجيبك عنها، وستكون هذه هي المرة الأخيرة التي أقبل أن أُجَرَّ فيها إلى إجابات لأسئلة من هذا النوع إن شاء الله
1- ما حكم وضع أوراق الدعاية الانتخابية لمرشح بعينه داخل شنطة رمضان أو داخل مظروف المعونات التي تقدِّمها لجان البر؟ 
الجواب: هذا لا يصح، ودائمًا ما تكون توجيهات الإخوة المسئولين عكس ذلك حتى لا يسوء الظن بالإخوان. لكن هذه التصرفات الفردية المخطئة لا تُقارَن باستغلال مقدرات الدولة كرشى للناخبين؛ ليصوتوا للحزب الوطني، وهو ما يجب أن تتوجه الهمم لمقاومته وفضحه، بدلاً من التركيز على أخطاء فردية يمكن نصح أصحابها وتوجيههم إلى الصواب.
 2- ما حكم الدعاية لمرشح بعينه من على المنبر؟ منبر الجمعة أو منبر مربي الأشبال أو الطلبة المؤثر في شريحة كبيرة من الأسر؟ فهو يدعو له باسم الإسلام وباسم التدين؟ 
الجواب: لا يجوز استخدام منابر المساجد للدعاية لمرشح بعينه؛ درءًا للمفاسد التي قد تحصل وتخل بقيمة المسجد. لكن الخطيب يمكن أن يدعو إلى انتخاب الأكفأ صاحب الدين والخلق وحامل المشروع الإسلامي الذي يحقق الخير والنفع للأمة، دون تحديد مرشح بعينه. 
3- ما حكم قولنا في الدعاية الانتخابية لرمز الشمسية مثلاً "علّم على الشمسية علامة تنفع يوم القيامة"؟ 
الجواب: هذا كلام مرده إلى نية صاحبه، فإن كان المقصود أن صاحب الرمز هو الأكفأ والأجدر دينًا وخلقًا من غيره، وكان ذلك حقيقيًّا، وكان هو الظاهر من حاله، فلا شك أن الذي ينتخبه يكون قد نصح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويرجى له الأجر بقدر نيته
وإن كان ذلك تحايلاً وخديعةً ومكرًا فهو محرم.
 4- ما حكم استخدام القرآن وآياته وإسقاطها على مرشحين بعينهم سواء للتأييد أو للتـنديد؟
الجواب: استخدام الآيات القرآنية في أي موضوع وتضمينه إياها مرده إلى نية المستخدم، وحسن استخدام هذه الآيات بشكل صحيح، فلو استخدم مرشح مثلا ﴿كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ﴾ (الصف: من الآية 14)، يقصد بذلك الدعوة إلى انتخاب من ينصرون دين الله ويدعون إلى تطبيق الشريعة فلا حرج في ذلك.  
لكن لو استخدم آيات تتعلق بالنفاق أو الكفر وأسقطها على المرشح المنافس فذلك خطأ كبير لا يجوز مطلقًا.
 5- ما حكم استدعاء الآيات القرآنية التي نزلت في الغزوات مثل سورة الأنفال لتحفيز الإخوة للعمل، وتحريضهم على العمل، واستدعاء آيات التوبة وغزوة تبوك؛ لإسقاطها على من يتخلف عن الحضور أو يتهاون في بذل الجهد؟ 
الجواب: لا بأس باستخدام الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتحفيز الهمم ومواجهة التفريط لفعل الخيرات عمومًا، ومنها الدعوة للمشاركة في مناصرة أصحاب المشروع الإسلامي الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والداعين للحق ولتطبيق الشريعة، إذ الآيات، وإن نزلت في حوادث معينة إلا أن دلالاتها عامة، وأذكر أن الإمام الأصولي الفقيه العز بن عبد السلام الملقَّب بسلطان العلماء دخل على أحد الأمراء فذكر له أن الخمر تباع وتشرب في بعض الأماكن، فقال الأمير: هذا أنا ما فعلته، هذا كان من زمان أبي. فقال سلطان العلماء: أنت إذًا من الذين يقولون: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ (الزخرف: من الآية 22)؟
 مع أن الرجل كان مسلمًا والآية تتناول المشركين، لكن لمَّا أشبههم في بعض الأمور جاز أن يطلق عليه وصفهم على سبيل التشبيه أو الاستعارة.  
بل النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع أبا ذر رضي الله عنه يعير بلالاً بأمه ويقول: يا ابن السوداء قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "أعيرته بأمه! إنك امرؤ فيك جاهلية".
 هذا مع ما لأبي ذر من المكانة والسابقة في الإسلام؛ ولكنه لمَّا عمل بخلق من أخلاق أهل الجاهلية في هذا الموقف قال له النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقالة.
 ولماذا نذهب بعيدًا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا في حديث عبد الله بن عمرو: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها"..؟! الحديث.  
فلا يلزم أن تنزل الآية على ما يماثلها تمامًا، بل يكفي أن يكون بين الأمرين وجه من وجوه الشبه، وذلك على سبيل التهييج للاهتمام بالأمر أو للتحذير منه، وهذا معروف في علم البلاغة.  
6- ما حكم أن يستخدم أحد السلفيين مثلاً شعار مثل الإيمان هو الحل، فهل نقف مع الإسلام أم مع الإيمان؟ 
نقف مع من نثق بصدقه وأمانته وكفاءته كائنًا ما كان الشعار الذي يرفعه، ما دام شعارًا مقبولاً، ونرفض المكايدات بالشعارات
7- ما حكم تزكية شخص للناس (وهو المرشح غالبًا) لا أعرفه ولا أعرف دينه ولا أمانته وأقسم الأيمان وأجهد في الدعاية أنه الأفضل والأتقى والأقرب لله أن تختاروا هذا الرجل.. وهل تكفي تزكية الجماعة له أن أزكِّيه، خصوصًا مع اهتزاز الثقة لدى الكثير من الإخوان مؤخرًا؟
أما أن تقسم الأيمان وتجتهد في ذلك فلا أنصحك به، ولا تجعل القسم مادةً سهلةً تدفع بها في صدر كلامك، ويكفي أن تقنع من أمامك بفكرتك.  
أما تزكية الجماعة فأعتقد أن تزكيتها تكفي إذا كانت جماعة موثوقًا بها، أما إذا كانت جماعة متآمرة على خداع الناس ومتواطئة على التحايل عليهم فتزكيتها لا قيمة لها، بل ربما كانت تزكية المجروح جرحًا فيمن يزكيه.
 فإذا قصدت بالجماعة جماعة الإخوان المسلمين، فأرى- وهذا رأيي الذي أراه صوابًا يحتمل الخطأ- أنها في عمومها أورع من أن تزكي مجروحًا، وأنها تتوخى فيمن تدفع بهم للترشح الكفاية والعدالة والقدرة على القيام بالمهمة، ومن ثَمَّ يكفيك- في رأيي- أن تزكَّي بناء على تزكيتها، فضلاً عن أن لك كل الحق- بل هو واجب- أن تذهب فتسأل عن المرشح وتتأكد بنفسك من سلامة التزكية؛ لأن الجماعة لا ترشح مجاهيل، بل ترشح رموزًا مشهودًا لهم بالكفاءة، والله أعلم.  
8- هل عندما يزكي المتحدث في الدين من الدعاة أو العلماء أحدًا، فهل هذا واجب شرعي أن ننتخبه وعدم انتخابه حرام شرعي يأثم تاركه؟ 
إذا صح عندك عدالة العالم المزكِّي وتبين لك أن هذا المرشح هو الأصلح شرعًا للقيام بالمهمة صار انتخابه واجبًا (من وجهة نظري) وصار انتخاب غيره ممن ليس كذلك لونًا من ألوان الشهادة بالزور وتولية غير الأصلح مع وجود من هو أرضى لله منه، وصار القعود وعدم انتخاب الأصلح تركًا للشهادة ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ (البقرة: من الآية 283). هذا رأيي الذي أقتنع به بيقين
 9- هل هذا هو المنبر الوحيد لتحقيق ما ذكرت من منافع؛ فيصبح التولي عنه فعلاً توليًا عن الزحف كواحد من السبع الموبقات؟ 
10- هناك بعض المفكرين غير المغرضين وغير أعداء الدين ومن المحترمين المسمين بالإسلاميين ينادون بالمقاطعة من منطلق أن المشاركة تحقق مصلحة متوهمة، بل قد تؤدي لمفسدة تثبيت التزوير والمشاركة في مسلسله، فهل هذا يعتبر توليًا يوم الزحف؟ 
قلت في الحوار: إنه ليس المنبر الوحيد، ولكن لا معنى لتركه مع الاعتراف بقوة تأثيره، ولكل وجهة هو موليها، وقلت: إنني أسحب عبارة (أشبه بالتولي يوم الزحف) لأنه قد أسيء فهمها، ولست في وارد الدخول في جدل لغوي لفظي أو فقهي ليس هذا مجاله، فلم يعد للسؤالين معنى بعد هذا التوضيح
أما قولك: "أتمنى أن أقرأ ردًّا مستفيضًا مقنعًا شرعيًّا على ما تقدمت به لشخصكم الموقر الذي له في القلب منزلة كبيرة، بعيدًا عن السمع والطاعة والمنشط والمكره ورؤية الإخوة"، فأسال الله أن أكون قد قدمت لك ما تريد، وهذه بضاعتي سقتها إليك وإلى إخوانك، فإن صادفت قبولاً فالحمد لله، وإن لم تصادف قبولاً فاسأل الله أن يهدينا وإياك لما اختلف فيه من الحق بإذنه.  
وأستأذنك في رفض العبارة الأخيرة من كلامك؛ لما فيها من سوء تقدير لمفهوم السمع والطاعة، وباختصار شديد: فإن أهم عاملين يضمنان بقاء أية جماعة تطوعية واستمرارها ونموها هما: 1- قوة رابطة الأخوة التي تجعل الأخ يخفض جناحه ويلين في أيدي إخوانه ثقة بهم وبإخلاصهم. 2- قيام العلاقة التنظيمية على أساس السمع والطاعة للقيادة في المعروف، ثقة في كفايتها ونفاذ بصيرتها.
 ويبقى الحوار والنقاش وتبادل الآراء وتقديم النصح بكل السبل المشروعة اللائقة للأئمة والعامة وللأفراد والقيادة سمةً مميزةً لكل أفراد هذه الجماعة، يحمي من الزلل والخلل، ويعين على المراجعة والتصحيح
وقبل الختام لا يسعني إلا تقديم الشكر لكل المشاركين والناصحين، وقد استفدت منهم جميعًا، ولو لم يرد بيان ذلك أثناء الحوار، حتى من وصل إليَّ رأيهم متأخرًا كالأخ الأستاذ أمجد أبو العلا وغيره، جزى الله الجميع كل خيرًا
إلى العمل:
والآن وقد استبان الأمر ووضح السبيل واتخذ القرار بالمشاركة في الانتخابات القادمة، فقد صار لزامًا علينا أن نأخذ الأمر بجد وقوة، والبركة فيما جاءت به الشورى، وليفعل كل الأحبة الذين كان لهم رأي آخر كما فعل الأخ مصطفى كمشيش وكما وعد الأخ (نور دنت) أن يفعل، بتجميد هذه القناعة، والعمل بجد واجتهاد مع الإخوان ومع الناس جميعًا لإنجاح الخيار الشوري، سائلين الله أن يمدنا بتوفيقه، وأن يجعلنا من الصالحين المصلحين إن شاء الله.