الأربعاء، 5 مايو 2010

الصلاح والاصلاح في القرآن


الصلاح والاصلاح في القرآن(1)
المقدمة
الحمد لله، حمداً كثيراً على نعمه، والصلاة والسلام على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد..
فإنّ الله تعالى قد أكمل دينه، وأتم نعمته على المؤمنين بما أنزله من القرآن الكريم على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد ( صلى الله عليه وسلّم ) ليخرج الناس به من الظلمات الى النّور، ويهديهم إلى صراط الله المستقيم، قال تعالى } ... قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ { المائدة: 15-16.
ولقد تسلّم الإسلام قيادة البشرية بعدما فسدت الأرض وأسنَت الحياة، وذاقت البشرية الويلات و } ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { الروم:41.
والصلاح هو الركن الذي ينبغي له الوجود عند كل بني البشر، ولا يستقيم حياة الإنسان دونه، فهو – الصلاح – للسعادة أساس، وللحياة ركن، وللإنسانية شرط ، ولتحقيق الخلافة مدلول.
كثر الكلام عن الإصلاح في العالم أجمع، وأصدرت كتب ومجلات وجرائد، وأنشأت أحزاب وحركات وجمعيات بإسم الإصلاح ، وكثيراً مانشاهد المظاهرات والهتافات تعلو على أجهزة الإعلام ( الإصلاح .. الإصلاح ) ، وبروز التيار الإصلاحي في العالم، وبغض النظرعن تفسير مغزى الإصلاح عند كل من يريد أن يفسره، فهناك من يفسره بأنه التسوية بين الرجل والمرأة، وغيره يفسره بأنه إعطاء الدور الكامل للطبقة المسمى – بالشباب – وإصلاحه، على كلٍ، فقد جذب شعور العالم نحوه .
لعل العالم رأت الفساد في جميع النواحي ، في السياسة والأخلاق والفكر و الإقتصاد والإجتماع ، لذا قاموا بتأسيس وتشكيل الأحزاب والجمعيات لغرض الإصلاح أملاً في إصلاح مافسد.
سبب اختيار الموضوع
يرجع سبب إختياري لهذا الموضوع الى جملة من الأمور منها:-
1-
إنحراف المسلمين عن المسار الذي رسمه القرآن .
2-
الرغبة الصادقة في إضاءة شمعة على طريق الإصلاح.
3-
حال الأمة الإسلامية في أغلب المجالات، تغلغل عوامل الفساد ومظاهره في معظم المجتمعات.
4-
الفشل الذريع لكل الجهود والمحاولات الإصلاحية عن طريق الأنظمة والمناهج الوضعية ، ووصولها الى طريق مسدود.
5-
إنبهار بعض الناس بالمبادئ المستحدثة، وبألوانها البرّاقة، وماهو إلاّ الوهم الخادع والسراب الكاذب.
6-
كيد أعداء الإسلام لصرف أمة القرآن عن نظامها الشامل للحياة.
7-
القنوط التي إستولت على قلوب كثير من الناس ، ظنّاً منهم أنّه لاسبيل إلى إصلاح هذه الأمة ، ولا أمل في إستعادة مجدها.
قمت بتقسيم هذا البحث على ثلاثة مباحث ، ولكل مبحث مطالب وعلى الشكل الآتي :-
المطلب الثاني: أولاً : العلاقة بين الصلاح والاصلاح . ثانياً: آثار الصلاح والاصلاح على الفرد والمجتمع. المطلب الثالث : صفات المصلحين في القرآن. المبحث الثاني : المطلب الاول : مصير الأمة التي تركت الإصلاح .
المطلب الثالث: قواعد ومراتب الإصلاح. المبحث الثالث : مجالات الإصلاح . المطلب الاول : أولاً: الإصلاح السياسي. ثانياً: الإصلاح الإجتماعي. المطلب الثاني : أولاً: الاصلاح الاقتصادي . ثانياً: الاصلاح الاخلاقي. ثالثاً: الاصلاح الفكري.
الخاتمة .....


المبحث الأول
المطلب الأول
المعنى اللغوي والشرعي للصلاح والإصلاح
الصلاح : ضد الفساد، ورجل صالح في نفسه من قوم صلحاء ومصلح في أموره، وهذا الشئ يصلح لك أي : هو من ياتيك.
والإصلاح : نقيض الافساد ، والاستصلاح نقيض الاستفساد، واصلح الشئ بعد فساده أي أقامه، واصلح الدّابة ، أحسن اليها فصلحت.
والصلح تصالح القوم بينهم ، والصلح السلم ( [1]).، صلح صلاحاً وصلوحاً: زال عنه الفساد، والشئ كان نافعاًاو مناسباً، يقال: هذا الشئ يصلحلك.
أصلح ذات بينهما : أزال مابينهما من عداوة وشقاق، وفي التنزيل } وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا... { الحجرات: 9 ، و}... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ { الأنفال: 1 .
وإستصلح الشئ : تهيأ للصلاح والصالح ، المستقيم المؤدي لواجباته والصلاح، الاستقامة والسلامة من العيب، ...والصلح انهاء الخصومة ( [2]).

المعنى الإصطلاحي للصلاح

الصلاح مختص في اكثر الاستعمال بالافعال، وقوبل في القران تارة بالفساد وتارة بالسيئة ، قال تعالى } ... خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً { التوبة: 102، وقال ايضاً } وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا {الأعراف: 56 .
والصلاح هنا يراد به ان يكون الإنسان صالحاً في ذاته ، قد بدأ بنفسه فطهرها وهذبها وأقامها على الصراط فاصبحت نفساً طيبة صالحة .
يقول الإمام الغزالي ( [3]) رحمه الله (( فحق على كل مسلم ان يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات )) ( [4]).
ويقول الآلوسي رحمه الله (( الصلاح عبارة عن الإتيان بما ينبغي والإحتراز عمّا ينبغي )) ( [5]) ، وهو أي : الصلاح: جامع لكل خير وله مراتب غير متناهية ، ومرتبة الكمال فيه مرتبة عليا، ولذا طلبها الأنبياء عليهم السّلام كما قال النبي سليمان عليه السّلام } وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ { النمل: 19( [6]).

المعنى الإصطلاحي للإصلاح

يقول الإمام الغزالي رحمه الله بعدما وضّح واجب المسلم تجاه نفسه بتهذيبه ، شرع في بيان معنى الإصلاح فقال: ( ثم يعلم ذلك – أي الذي قام بتهذيب نفسه وصلاحه – ثم أهل بيته و يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه ثم إلى أهل محلته ثم إلى أهل بلده ثم إلى أهل السوادالمكثف ، ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم...)، وبتوافر عنصري الصلاح في النفس والإصلاح للنفس يتحقق للإنسان إكتمال فضيلة أخلاقية قرآنية ذات شقتين ، يكمل احدهما الأخرى ، تلك هي ماعبرت عنه بكلمتي (الصلاح والإصلاح ) ( [7]). ،فاذا عرفنا بان الصلاح هو القيام بتهذيب الآخرين والتعدي من النفس إلى الغير، إذاً أدركنا ذلك ، فبم يتحقق القضية وبم يتم ذلك؟.
يقول الإمام إبن تيمية( [8]) رحمه الله (( إنّ صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّ صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله، ولايتم ذلك إلاّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خيرأمة أخرجت للناس)) ( [9])، فمضمون الإصلاح إما أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، وجاء في معجم العلوم الإجتماعية إن المقصود بالإصلاح هو " تغيير في نموذج من النماذج الإجتماعية أملاً في الوصول إلى تجسيد ذلك النموذج، وحركات الإصلاح بمعنى الكلمة تنزع إلى تخفيف مساوئ النظام الإجتماعي وتصحيح الأوضاع الفاسدة وذلك عن طريق تعديل في بعض النظم الإجتماعية دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير البناء الأساسي للمجتمع " ( [10]).
المطلب الثاني

أولاً : العلاقة بين الصلاح والإصلاح

الإقتران المتكرر، الغالب بين الإيمان والعمل الصالح يشيرإلى ان الايمان مقدمة ومدخل إلى الصلاح، ونعني بالايمان: الذي يغيرالإنسان فيصلحه، فهذا التغيير الناشئ بدافع الإيمان هو الصلاح، أي شأن المؤمن مع الخالق وأوامره ونواهيه، كما ان للإيمان ثمرات، ومن ثمره الصلاح ، وإلاّ فما الفائدة من الصالحين ؟، والإصلاح يكون ثمرة أو نتيجة الصلاح ( [11]).
الإصلاح قوام بقاء المجتمع وخيريته، لكن لاتنفك علاقته عن الصلاح ، فلا إصلاح بدون صلاح، وبدون العودة إلى الذات وبدون تغيير مابالنفوس } إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ { الرعد: 11، فان الأمم المنتصرة على أعدائها، أمم حققت نصراً داخلياً أولاً ، وحققت كل واحد من أبنائها نصراً على الصعيد الشخصي من خلال تغييره مافي نفسه ( [12]).
إن الإهتمام بإصلاح الدنيا من شيمة المؤمن } وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ { الانبياء:105، مهمة الصالحين هي العناية بالارض والعمل على استقامته على الارض – مهمة الحياة البشرية – وستكون زمامها بيد الصالحين ، وكما يكونون ورثة ( الفردوس ) في الآخرة ، لابد وان يكونوا ورثة الارض، فهل من الممكن أن يكونوا وارثين مكفوفي الايدي؟.
لاشك } وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ { العنكبوت69، فالإصلاح يهدف إلى توفير الدافع الداخلي لدى جماهير الشعب ، تلك الجماهير المتعطشة إلى انتفاضة القلب كيما تنتصر على ما أصابها من خمود( [13]).
فتوفير الدافع الداخلي من أجل إنتفاضة يصلح الخارج بواسطة إنتفاضة القلب ، جاء في حديث إبن لبيد حيثما ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) أمراً فقال : (( وما ذلك في زمان ذهاب العلم، فلما سأله الصحابي : وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونستقرئ أبناءنا ، وأبناؤنا يستقرؤون أبناءهم القرآن؟.. فقال أوليس اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولاينتفعون مما فيهما بشئ )) ( [14]).

ثانيا: آثار الصلاح والإصلاح على الفرد والمجتمع

الصلاح والإصلاح: هما الحصن الحصين لبقاء المجتمع وتقدمه ويعتبران الحياة التي جاهد المصلحون من أجلهما .
للصلاح والإصلاح في القرآن الكريم آثار كثيرة نذكر بعضاً منها:-

1- الحياة الطيّبة:
قال تعالى } مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ { النحل:97، ان العمل مع الإيمان جزاءه حياة طيبة في هذه الأرض ، لايهم أن تكون ناعمة رغدة ، ثرية بالمال، فقد تكون به ، وقد لاتكون معها، وفي الحياة أشياء كثيرة غيرالمال تطيب بها الحياة في حدود الكفاية، وفيها الإتصال بالله والثقة به والإطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة، وسكن البيوت ومودة القلوب وفيها الفرح بالعمل الصالح وإيثاره في الضمير والحياة ( [15]).

2- النجاة من الهلاك والدمار:
قال تعالى : } وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ { هود:117، ولتفسير المنار كلام مهم في التعليق على هذه الآية الكريمة " أي وماكان من شأن ربك وسنته في الإجتماع البشري ان يهلك الأمم بظلم منه لها في حال كون أهلها مصلحون في الأرض، مجتبين للفساد والظلم، وانما اهلكهم ويهلكهم بظلمهم وإفسادهم فيها كما ترى في الآيات العديدة من سورة هود وغيرها "( [16]).

3- وراثة الأرض والاستغلال فيها:
على المؤمن بالقرآن أن يتيقن بأن وراثة الأرض مشروطة بمهمة الإصلاح } أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ { الانبياء:105، وأساس الصلاح وعماده هو ماقاله تعالى : } الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ { الحج:41.

4- جلب ولاية الله :
ومن آثار الصلاح أيضاً انه يجلب ولاية الله ورعايته لعبده الذي أخذ بين جنبيه نفساً صالحاً قام بتهذيبها، وقامت بدورها التي من أجلها خلقت وحينئذ يجلب الولاية ، قال تعالى : } إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ { الأعراف:196، وانها - أي المنكرات – إنتهاك حرمات الله ، والله تعالى يغار على حرماته أن يعتدي عليها، ومن شأن المؤمن الصالح ان يكون ولياً لله ،يحب مايحب الله ويبغض مايبغض الله ، ومعنى هذا ان من رأى حرمات الله تنتهك ولم يكن له غيرة تنزع به إلى الحفاظ عليها، وحمايتها من عدوان المعتدين وإقتران المقترفين، لم يكن ولياً لله ولا واقعاً موقع رضاه ... ( [17]).

5- حفظ النسب أو العناية الإلهية بالذرية :
قال تعالى : } وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً { الكهف:82، بناء جدار اليتيمين في قصة موسى عليه السّلام مع الرجل الصالح معروفة ، ولم تأت العملية صدفة وبلا سبب، وإنما كان أثراً لصَلاح أبيهما.
عن هنادة بنت مالك الشيبانية ، قالت : (( وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر فيها صلاح وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء وكان نسّاجاً ، وكان أبوهما صالحاً )) فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة شفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنّة لتقر عينه بهم كما جاء في القرآن ووردت به السنّة ، قال سعيد بن جبيرعن إبن عباس - رضي الله عنهما - حفظاً بصلاح أبيهما ولم يذكر لهما صَلاحاً ( [18]).

6- الإطمئنان:
الإصلاح أمان في أي شئ يفزع في الحياة ، وحيلولة دون وقوع الحزن، والنفس المستقيم بالصلاح يتحدّى الكبد التي هي طبيعة الحياة الدنيوي ، والنفس الذي ارتكب النحراف عن الصلاح والإصلاح فقد تورط في هموم الدنيا ولم يخرج صاحبه من فزع الحياة ، قال تعالى : } وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ { الأنعام:48 ( [19]).

7- جلب المغفرة والرحمة :
قال تعالى : } ... وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً { النساء: 129، وقال ايضاً: } رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً { الاسراء: 25 .

المطلب الثالث
صفات المصلحين في القرآن

إن القرآن الكريم ملئ بالنماذج الحيّة التي تمثل أنموذج الشخصية الإصلاحية من الأنبياء والمصلحين الذين جعلهم القران بمثابة مؤسسة علمية كبيرة تعطي الضوء على كل ما يحتاجه المصلح في ميدان اصلاحه ، كل في ميدانه ، ومن خلال السماع إلى قصص المصلحين في القرآن الكريم ندرك أهمية هذه الصفات ونتطلع على جملة صفات ، وهذه الصفات شروط في تحقيق الإصلاح العام ، لمن أراده، ومن أهم هذه الصفات:-
1- وضوح النيّة : } إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً { الإنسان:9 ، و} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ { الشعراء:109، و} ... إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ { الاحقاف: 21، فكانت نياتهم في تغيير الواقع لله تعالى فقط، وكل يعقب على نيته بلسانه الخاص ، فعند ما قاوموا الإفساد في العبادات والإقتصاد و الأخلاق والحكم، قد بينوا نياتهم، لذا وقع أجرهم على الله ، } ... إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ { الأعراف: 17، ( [20]).
2- التوكل والثقة والصبر واليقين : لكل من هذه الكلمات معاني ذات أهمية ، فهي مقومات لبناء النفس والأمم ، ولم يأت نبي ولا مصلح إلاّ زود بهذه المقومات لأداء رسالته الإصلاحية، فاذا لم يتحلى المصلح بهذه العناصر فليس بإمكانه أن يجتاز المرحلة ، بل المراحل منصوراً، فلسان كل مصلح في القرآن( وماتوفيقي إلا بالله فهو القادر على إنجاح مسعاي)، يقول سيد قطب بعد أن يوضح قيام الجماعة الخيّرة المهتدية المصلحة المتجردة التي تعرف الحق الذي بيّنه الله تعالى وتعترف بأنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض ، ومن هنا كانت الفئة القليلة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر ، ذلك إنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض وتمكين الصلاح في الحياة ، إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الإنتصار( [21]).
3- الإستعداد: كان للمصلحين إستعدادت كما هو بيّن في القرآن الكريم، وفي جميع المستويات ، لكل عبئ في الطريق ، وهم يوجهون نحو إنقاذ الأمة ( أدعوكم إلى النجاة )، ونجاة الأمم شئ عظيم ، وبناية ضخمة لابد لها من أساس عظيم، بدءً من الإستعداد النفسي لبذل الروح وقطرة الدم عند الحاجة ، فليست الدعوة جمعية خيرية تقنع بالقليل ، والإستعداد للتعب اليومي ( [22]).


4- القدوة : لايصلح الداعي للإصلاح إلى مايريد إلاّ من خلال أن يوَطِّن نفسه القدووية ، ولاشك ان من توفر فيه الصفات المذكورة من النية والثقة والتوكل وغيرها يصبح قدوة (( وان التوحيد مع التوجيه الهادف للمشاعر لن تأتي إلاّ من القدوة الصالحة التي تتجسد في الدعاة المخلصين وعلماء المسلمين النابهين ممن يضربون المثل في التفاني والإخلاص والموضوعية والقدرة على الإقناع وجذب الرأي العام نحو قضايا الأمة ليعرف كل مسلم ماخفي وما جهل من أمور دينه ودنياه، وليدرك خطورة وأهمية مشاركته لتخطي المرحلة التي تعيشها الأمة من التخلف والقهر وتدني وسائلها في مواجهة الصراع الحضاري المفروض عليها فرضاً )) ( [23]).

5-علو الهمة مع اللطف والألفة : تندرج هذا تحت مايسمى بالطاقة الأخلاقية ، فالهمّة العالية هي التي تصل إلى الهدف المرجو ، وبدونها يستحيل تحقيق الغايات ، والألفة من أبرز معالم الخلق الحسن ومن أنصح ثمارها ، ومن أبرز خصائص الشخص المؤثر الجذاب ، اللطف والخلق الرفيع ، ولاشك ان الشخص السيئ الخلق فرد منفرد إلى أبعد الحدود ، وليس من سمات الصالحين فضلاً عن أن يكونوا مصلحين ، ومن هنا فقد أكدت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أهمية إلتزام بالسلوك الجذاب المؤلِف، وعلى تجنب السلوك والتصرف المنفِّر، فجاء هذا التحذير الواضح } فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ { آل عمران:159 ، وقال: }وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ { فصلت:34، فموسى وعيسى ومحمد صلوات الله تعالى عليهم أجمعين ، كانوا مجمعين لتلك الطاقة الأخلاقية التي أوصلوهم إلى نفوس فطرية بسبب علو الهمّة واللطف والألفة ( [24]).
المبحث الثاني
المطلب الاول
مصير الأمة التي تركت الإصلاح
لغة القرآن مع بني البشر واحدة، وفي القرآن كثير من القصص للأمم الغابرة , فقد تحدث عن وجود أقوام بعد بدء الخلق وصنفها، اما من حيث الخيرية أو الشرية .
فالقرآن تحدث عن بني إسرائيل } يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ { البقرة:47، هكذا كانوا ، لكن بعدما أعرضوا عن التوراة ،ماذا كانت منزلتهم ؟ فقد قال فيهم } مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً { الجمعة:5، ولما وقعوا في الفساد والافساد، بدأوا بالانحراف والعصيان والاعتداء قال في حقهم : } ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ { آل عمران:112،.
من الجدير أن نقف هنا ونطرح سؤالاً مهماً ، ياترى مالسبب وراء تلك العقوبات الالهية الصارمة ؟ الجواب ماقاله تعالى:- } ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون { آل عمران 112، فعندما ندرس حال الأمة الإسلامية فى القرآن } كنتم خَير أمة أخرجَت للناس { على أساس } تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر { قبل (وتؤمنون بالله) يجب ان نتذكر حال بني إسرائيل } وفضلناكم على العالمين { فأذا فقد المسلمون هذا الأساس وإنحرفوا عن منهج الله فلم يكن لهم شأن أفضل على الله من بني إسرائيل وليسوا بأكرم منهم , فإن قانون الله واحد } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ … { المائدة :54 ، وان الله عز وجل يذكرالأمة الإسلامية باحوال الأمم الماضية فيقول في سورة الفجر }أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ { الفجر:6-11.
ويقدم الحديث النبوي تفصيلات واسعة ودقيقة عن الأمم السابقة من الذين إكتفوا بالصلاح وأوكلوا غيرالصالحين ورضوا بأفعالهم فكان ذلك سبباً في شمول الجميع بالعذاب , وتحذيرات صارمة للمسلمين ليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويقفوا بوجه الظالم ويتصدوا للمفسدين , وإلا سيذيقهم الله ألواناً من العذاب السياسي والإجتماعي والعسكري والإقتصادي في الدنيا إضافة إلى ماينتظرهم في الآخرة ( [25]).
إن المعادلة القرآنية: هي كل طغيان في البلاد ينتج عنه إكثار في الفساد، وينتج عن الطغيان والفساد العذاب والعقاب، يوقف الله بالطغاة الفاسدين المفسدين وهذا ليس خاصاً بالطغاة السابقين كعاد و ثمود وفرعون، ولكنه قاعدة مطردة وسنة ربانية دائمة، تنطبق على الطغاة في كل زمان ومكان } إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ { الفجر:14، ( [26]).
ومن الآفات التي تلحق الأمة التي تترك الإصلاح:-
1- تعميم العذاب في الدنيا: قال تعالى :} وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ { الأنفال:25، فالسكوت عن المعاصي والاعلان بها من موجبات العقاب والهلاك، لان السكوت عليها يغرى أصحابها على التمادى واستفحال أمرها وإنتشارها بكثرة، وذلك قد يتعدى إلى كل طبقات المجتمع الإسلامي، فيصبح الناس كلهم منحلين من الاخلاق الكريمة والآداب السامية الإسلامية، وحينئذ لا يبقى لوجود الصالحين بين الناس فائدة كبيرة ، لغلبة الشرعلى الخير، بل يصبح الأخيار و الأشرار وقته سواء،غيرأن الصالحين ينقلبون إلى مغفرة الله ورضوانه حسب صدقهم وإخلاصهم، وقد يكون ما أصيبوا من عقاب وعذاب، تطهيراً وتمحيصاً لهم ( [27]).
الأمة محصنة بقيم ، مالم تنكسر تلك القيم وما لم يكن في بنيانها ثغرة لدخول الافساد، ومن الثغرات التي تسبب الهلاك وتاخذ الأمة بلا فرق في بني أفرادها هو ظهور المعاصي التي تبنى بالفساد مع السكوت عليها.
ذلك ان الوصية اذا صدرت من فرد وأتى بها خفية كما هو المطلوب ممن إبتلي بشئ من ذلك، كان ضررها قاصراً عليه، ولا يتعدى شرها لغيره، اما اذا اصبح المجرمون والمنحرفون يعلنون بإجرامهم ويتظاهرون بفسوقهم، ولم يوجد من ياخذ على أيديهم ويردعهم، ويصل حينئذ وباءها إلى العامة والخاصة ولم يبقى وبالها مقصوراً على مرتكبيها و بذلك جاءت نصوص الشرع، قال الله عز وجل } وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ { الأنفال:25، فقوله عزوجل } وأتقوا { هو خطاب للمؤمنين مطلقاً صلحائهم وغيرهم، والمراد بالفتنة العذاب الدنيوي كالقحط والغلاء وتسلط الظلمة وغير ذلك، } وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ { الأنفال:25 ،
أي إتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح واصابها بمن يباشر الظلم منكم، واتقاء هذه الفتنة يكون بالكف عن الاسراف في الذنوب والاخذ على ايدي المهاجرين بها( [28]) .
وإن الآثمين إذا تركوا من غير رأي عام مهذب لائم هدموا بناء المجتمع، فإذا لم يأخذ الفضلاء على أيدهم سقطت الأمة، و تغيرت حالها، وأضطربت أمورها، وتقطعت الصِلاة التي تربطها، } إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ { الرعد:11 ( [29]).
2- الذلة والهوان والفقر:
إن الإصلاح أمر من الله، فضياع أمره يجلب الإنتقام الإلهي، ولا بارك لأمة ان ينتقم الله منهم، قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا صفوان بن عمرو حدثني عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه (( لما فتحت قبرص فرّق بين أهلها فبكي بعضهم إلى بعض، فرأيت ابا الدرداء جالساً وحده يبكي: فقلت يا ابا الدرداء ما يبكيك في يوم أعزّ الله فيه الاسلام وأهله؟ فقال ويحك يا جبير: ما أهون الخلق على الله عزوجل إذا ضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة لهم الملك، تركوا أجر الله فصاروا إلى ما ترى )) ( [30]).
وفي مراسيل الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) : (( لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وفي كنفه مالم يمالئ قرائها أمرائها ومالم يزكِّ صلحاءها فجّارها، وما لم يهن خيارها أشرارها فاذا هم فعلوا ذلك رفع الله يده عنهم ثم سلّط عليهم فساموهم سوء العذاب ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر )) ( [31]).

3- عدم استجابة الدعاء:
إن ترك الإصلاح يؤدي الى تعميم العذاب في الدنيا ، والهلاك المعنوي ،كالفقر والذلة والهوان، التي تعتبر من موجبات عدم إستجابة الدعاء، فعن حذيفة رضى الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) قال: (( والذي نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً ثم تدعونه فلا يستجيب لكم )) ( [32]).
4- ضرب القلوب بعضها ببعض :
قال النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) : (( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه عن الحق أطراً أو ليضربن الله في قلوب بعضكم ببعض ثم تدعونه فلا يستجاب لكم )) ( [33]).
" وضرب القلوب على القلوب المشار اليه في الحديث الشريف إشارة إلى مزجها وخلطها ببعض ، بمعنى ان تمتزج القوب الفاسدة مع القلوب السليمة وهذا من شأنه أن ينقل الفساد والاعتلال إلى القلوب السليمة الصحيحة لا العكس ، فإن مخالطة الصحيح للمريض لايمكن ان تنقل الصحة إلى المريض بل ان المريض هو الذي ينقل المرض إلى الصحيح بالعدوى , يقول الشاعر :
ولا تجلس إلى أهل الدنايا فان خلائق السفهاء تعدى
ومن هنا كان واجباً على المجتمع المؤمن لكي يحتفظ بوجوده سليماً معافى من آفات العلل النفسية والأسقام الخلقية التي من شأنها لو تمكنت منه أن تدمره , وتأتي عليه كما يأتي الوباء على من ينزل به، نقول إن الواجب على المجتمع المسلم أن يتفقد مواطن المنكر التي وصله من بعض أفراده فيعمل على إجلائها من مواطنه بكل وسيلة ممكنة له , ومن ذلك إشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من شأنه أن يحقق وقاية وعلاجاً معاً " ( [34]).
5- الاستحقاق للعنة الله :-
اللعن هو الطرد من رحمة الله وتحت كنفه , كما ان رحمة الله تعم ميادين الحياة فإذا رفعها الله فسيحقق آثارها في كل الميادين , أي يأخذ اللعن كل نواحي المجتمع , بدءً من صلاحية الأفراد وتنتهي بإنهيار الحضارات , فلا تبقى لوجودها مقومات , عن إبن مسعود قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) (( ان اول ما دخل النقص على بني إسرائيل انه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق ودع ماتصنع به فإنه لايحل لك .ثم يلقاه في الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك ان يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما علموا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض )) ( [35]) ، قال تعالى } لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ .كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ { المائدة:78 –79 ثم قال ( صلى الله عليه وسلّم ) : (( والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً )) ( [36]).
أما الحضارة وإنهيارها وإصابتها بالطرد من كنف الله ، كم أمتدت جذورها فانّ من قبلنا عبرة } وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ { هود:89، } وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَا { الأعراف:74.
إنهم كانوا في الحجر وهي بين الشام والحجاز، ونلمح من تذكير صالح لهم أثر النعمة والتمكين في الارض لثمود , كما نلمح طبيعة المكان الذي كانوا يعيشون فيه , فهو سهل وجبل وقد كانوا يتخذون من السهل القصور وينحتون في الجبال البيوت , فهي حضارة عمرانية واضحة المعالم في هذا النص القصير … وصالح يذكّرهم إستخلاف الله لهم من بعد عاد، وإن لم يكونوا في أرضهم ذاتها ولكن يبدو انهم كانوا أصحاب الحضارة العمرانية التالية في التاريخ لحضارة عاد، وان سلطانهم إمتد خارج الحجر أيضاً ،وبذلك صاروا خلفاء ممكنين في الارض محكمين فيها وهو ينهاهم عن الإنطلاق في الأرض بالفساد، وإغتراراً بالقوة والتمكين، وأمامهم العبرة ماثلة في عادٍ الغابرين ( [37]) .
ونتيجة اللعن ورفع الرحمة عن الأمة تأتي تقطيع الأمة إلى أمم شتى، كل واحدة على حدتها وهي المأزق الكبرى التي وقعت الأمة الإسلامية اليوم فيها , كان غضب الله على بني إسرائيل من هذا النوع، قال تعالى } وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { الأعراف:168، " و ان ما وقع ببني إسرائيل تحت غضب الله ولعنته حتى رماهم بالتشريد ومزقهم في الأرض، وحصل ذلك لهم لأنّهم لم ينكروا المنكرات الشائعة فيهم، بل تركوها تتوالد وتتكاثر الجراثيم حتى إغتالت كل صالحة فيهم" ( [38]).

الخميس، 29 أبريل 2010

كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة


كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة

قصيدة لشاب مصرى يدعى (مصطفى الجزار) شارك بها في مسابقة أمير الشعراء ، لكنها رفضت من قبل لجنه التحكيم بحجة أن موضوعها لا يخدم الشعر الفصيح ومنعت من المنافسة!!
كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة
                                فعـيـونُ عبلــةَ أصبحَـتْ مُستعمَــرَه
لا تـرجُ بسمـةَ ثغرِها يومـاً، فقــدْ
                               سقـطَت مـن العِقدِ الثمـينِ الجوهـرة
قبِّلْ سيوفَ الغاصبينَ.. ليصفَحوا
                              واخفِضْ جَنَاحَ الخِزْيِ وارجُ المعذرة
ولْتبتلــع أبيــاتَ فخــرِكَ صامتــاً
                              فالشعـرُ فـي عـصرِ القنـابلِ.. ثـرثرة
والسيفُ في وجهِ البنـادقِ عاجـزٌ
                              فقـدَ الهُـــويّـةَ والقُــوى والسـيـطـرة
فاجمـعْ مَفاخِــرَكَ القديمــةَ كلَّهــا
                              واجعـلْ لهـا مِن قــاعِ صدرِكَ مقبـرة
وابعثْ لعبلــةَ فـي العـراقِ تأسُّفاً
                              وابعـثْ لها فـي القدسِ قبلَ الغرغرة
اكتبْ لهـا مـا كنــتَ تكتبُــــه لهــا
                              تحتَ الظـلالِ، وفـي الليالي المقمـرة
يـا دارَ عبلــةَ بـالعـــراقِ تكلّمــي
                             هــل أصبحَـتْ جنّــاتُ بابــلَ مقفـــرة؟
هـل نَهْـــرُ عبلةَ تُستبـاحُ مِياهُـهُ
                             وكــلابُ أمــريكـــا تُدنِّــس كــوثــرَه؟
يـا فـارسَ البيداءِ.. صِرتَ فريسةً
                            عــبــداً ذلـيــلاً أســــوداً مـــــا أحقــرَه
متــطـرِّفــاً .. متخـلِّـفـاً.. ومخـالِفـاً
                           نَسَبوا لـكَ الإرهـابَ.. صِـرتَ مُعسكَـرَه
عَبْسٌ تخلّـت عنـكَ... هــذا دأبُهـم
                          حُمُــرٌ – لَعمــرُكَ - كلُّــــهـــا مستنفِـــرَه
فـي الجـاهليةِ..كنتَ وحـدكَ قـادراً
                          أن تهــزِمَ الجيــشَ العـــظيــمَ وتأسِـــرَه
لـن تستطيـعَ الآنَ وحــدكَ قهــرَهُ
                          فالزحـفُ مـوجٌ.. والقنـــابــلُ ممـــطـــرة
وحصانُكَ العَرَبـيُّ ضـاعَ صـهيلُـهُ
                          بيـنَ الــدويِّ.. وبيـنَ صـرخــةِ مُجـبـــَرَه
هــلاّ سألـتِ الخيـلَ يا ابنةَ مـالـِـكٍ
                          كيـفَ الصـمــودُ ؟ وأيـنَ أيـنَ المـقــدرة!
هـذا الحصانُ يرى المَدافعَ حولَهُ
                         مـتــأهِّــبـــاتٍ.. والــقـــذائفَ مُشـــهَــــرَه
لو كانَ يدري ما المحاورةُ اشتكى
                         ولَـصـــاحَ فـــي وجــــهِ القـطـيــعِ وحذَّرَه
يا ويحَ عبسٍ .. أسلَمُوا أعداءَهم
                         مفـتــاحَ خيـمـتِهــم، ومَـــدُّوا القنــطــــرة
فأتــى العــدوُّ مُسلَّحـــاً، بشقاقِهم
                         ونـفـــاقِــهــــم، وأقــام فيــهــم مـنـبــــرَه
ذاقـوا وَبَالَ ركوعِهـم وخُنوعِهـم
                         فالعيــشُ مُـــرٌّ .. والهـــزائـــمُ مُنــكَــــرَه
هـــذِي يـدُ الأوطــانِ تجزي أهلَها
                         مَــن يقتــرفْ فــي حقّهــا شـــرّاً.. يَــــرَه
ضاعت عُبَيلةُ.. والنياقُ.. ودارُها
                         لــم يبــقَ شــيءٌ بَعدَهــا كـــي نـخـســرَه
فدَعــوا ضميرَ العُــربِ يرقدُ ساكناً
                         فــي قبــرِهِ.. وادْعـــوا لهُ.. بالمغـــفـــرة
 عَجَزَ الكلامُ عن الكلامِ .. وريشتي
                         لـم تُبــقِ دمعـــاً أو دمـــاً فـــي المـحبـرة
وعيونُ عبلـةَ لا تــزالُ دموعُهـــا
                         تتــرقَّــبُ الجِسْـــرَ البعيـــدَ.. لِتَــعـــبُــرَه

الراحة في الجنة .. بقلم د/ عائض القرني


الراحة في الجنة .. بقلم د/ عائض القرني

{ لقد خلقنا الإنسان في كبد }
يقول الإمام أحمد بن حنبل , وقد قيل له : متى الراحة ؟  قال : إذا وضعت قدمك في الجنة ارتحت .
لا راحة قبل الجنة , هنا في الدنيا إزعاجات وزعازع وفتن وحوادث ومصائب ونكبات , مرض وهم وغم وحزن ويأس.
طُبعت على كدر وأنت تريدها      صفواً من الأقداء والأكدار
أخبرني زميل دراسة من نيجيريا , وكان رجلاً صاحب أمانة أخبرني أن أمه كانت توقظه من الثلث الأخير , قال : يا أماه أريد الراحة قليلاً . قالت : ما أوقظك إلا لراحتك , يا بني إذا  دخلت الجنة فارتح .
كان مسروق أحد علماء السلف ينام ساجداً , فقال له أصحابه: لو أرحت نفسك،  قال : راحتها أريد .
إن الذين يتعجلون الراحة بترك الواجب , إنما يتعجلون العذاب حقيقة .
إن الراحة في أداء العمل الصالح , والنفع المتعدي , واستثمار الوقت فيما يقرب من الله .
إن الكافر يريد حظه هنا , وراحته هنا , ولذلك يقولون : {  ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب } قال بعض المفسرين : أي نصيبنا من الخير وحظنا من الرزق قبل يوم القيامة .
{ إن هؤلاء يحبون العاجلة } , ولا يفكرون في الغد ولا في المستقبل ولذلك خسروا اليوم والغد , والعمل والنتيجة , والبداية والنهاية .
وهكذا خلقت الحياة , خاتمتها الفناء , فهي شرب مكدر , وهي  مزاج ملون لا تستقر على شيء , نعمة ونقمة , شدة ورخاء , غنى وفقر .
هذه هي النهاية :
{  ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } .
 فانظر أخى الحبيب  أين انت من هؤلاء وأسال نفسك ماذا قدمت من أجل دين الإسلام لا اتكلم عن عبادات ( صلاة وصوم وزكاة وحج ) بل فهم شامل لهذا الدين وعن اعمال صالحة تلقى بها لله عز وجل .

السبت، 17 أبريل 2010

احترام الكبير وتوقير الصغير


أيها الاخوة الخطباء و الدعاة
اهتموا بتذكير الأمة بهذه القيمة
احترام الكبير وتوقير الصغير
الحمد لله وحده هدانا وعلمنا فسمونا بتعاليم ديننا واخلاق نبينا .. قال : "ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا" رواه أبو داود والترمذي.
اي انه ليس من اخلاقنا ومبادئنا ان لانعطي الكبير حقه من الاحترام والتقدير مهما در منه وتوقير الصغير ومراعاة صغر سنه بالحسنى والقول الحسن
والرسول الكريم قد اهتم كثيرا بهذا الجانب وكان اساسه في التعامل مع اصحابه ليعلمنا اسمى القيم واجلها فكان عليه الصلاة والسلام المثل الاعلى في تعاملاته ..ومنها
1.تقديم الكبير على الصغير
كان يبدأ ويقدم الكبير قبل الصغير وله في هذا الجانب القصص والعبر الكثير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح منا كبنا في الصلاة ويقول " استووا ولا تختلفوا . فتختلف قلوبكم . ليلني منكم أولو الأحلام والنهى(هم الرجال البالغون ) . ثم الذين يلونهم . ثم الذين يلونهم " قال أبو مسعود : فأنتم اليوم أشد اختلافا . الراوي: أبو مسعود عقبة بن عمرو المحدث: مسلم - المصدر: المسند الصحيح - الصفحة أو الرقم: 432
خلاصة الدرجة: صحيح
2. الترهيب من استخفاف الصغير بالكبير
روى الطبراني في الكبير عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث لا يستخف بهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام، وذو العلم وإمام مقسط." والاستخفاف كأن يهزأ به ويسخر منه ويوجه كلاماً سيئاً إليه، وهذا مانراه ونسمعه كثيرا وللاسف الشديد
3. الحياء من الكبير
لأن الحياء خلق يبحث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق الكبير ويدفع إلى إعطاء ذي الحق حقه.
روى ابن ماجة والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه" وروى الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه قال "لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً فكنت أحفظ عنه فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالاً هم أسن مني"
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر ان رسول الله قال أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ولا تحت ورقها . فوقع في نفسي أنها النخلة ، فكرهت أن أتكلم ، وثم أبو بكر وعمر ، فلما لم يتكلما ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هي النخلة . فلما خرجت مع أبي قلت : يا أبتاه ، وقع في نفسي أنها النخلة ، قال : ما منعك أن تقولها ، لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا ، قال : ما منعني إلا أني لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما فكرهت .
الراوي: عبدالله بن عمر المحدث: البخاري - المصدر: الجامع الصحيح - الصفحة أو الرقم: 6144
خلاصة الدرجة: [صحيح]

اعلى درجات التقدير والاحترام ومثال لامثيل له من افضل جيل لهذه الامه انهم قدوتنا صحابة رسول الله
4 ـ القيام للقادم الصغير
مثال من بيت النبوه في كيف يكون احترام الكبير وانزاله منزلته وتوقير الصغير واعلاء من شأنه
روى البخاري وأبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت:"ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ في قيامها وقعودها ـ من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها وقبلته وأجلسته في مجلسها".
5 - حتى الكبير من غير المسلمين
فاخلاقنا وقيمنا تتعدى فتشمل الكافر لاننا نتعامل بقيمنا لابقيمهم موقف لعمر رضي الله عنه ـ مع ذلك الشيخ اليهودي الكبير يذكر أبو يوسف في كتابة (الخراج) "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ مر بباب قوم وعليه سائل يسأل ـ شيخ كبير ضرير البصر فضرب عضده من خلفه فقال: من أي أهل الكتب أنت؟ قال يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية، والحاجة، والسن. قال: فأخذ عمر ـ رضي الله عنه ـ بيده فذهب به إلى منزله فرضخ له ـ أي أعطاه ـ من المنزل بشيء ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه، والله ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم {إنما الصدقات للفقراء والمساكين..} سورة التوبة 60. .... وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه".
فهل لازالت قيمنا وتعاليم منهجنا الاسلامي تسيرنا وتسمو باخلاقنا ؟؟!!!

احترام الكبير.. قيمة كادت أن تندثر (1)


احترام الكبير.. قيمة كادت أن تندثر (1)
بقلم: د. رشاد لاشين
قيمة احترام الكبير من القيم الإسلامية العظيمة التي يتعبد المسلم بها إلى الله عز وجل، وهي ليست مجرد تقاليد صارمة، أو إجراءات حزم عسكري، بل سلوكيات راقية نؤديها عن طيب خاطر، ورضاء نفس، والتماس أجر، وابتغاء ثواب، وتطبيق هذه القيمة يمنع الفوضى والغوغائية في المجتمع؛ فالقيادة ليست بالغلبة أو التسلط أو التكبر على الآخرين، بل بمعايير محترمة يتكافأ الجميع بخصوصها من ناحية الحقوق والواجبات، وكل إنسان قد يكون كبيرًا في مَواطن ومَكبورًا في مواطن أخرى، فتكون هذه القيمة الرائعة مرة حقًّا له ومرة واجبًا عليه؛ لذا يجب أن نعمل على إحياء هذه القيمة التي كادت أن تندثر في مجتمعاتنا، ونبدأ بغرسها في نفوس أبنائنا منذ نعومة أظفارهم، وندربهم عليها بشكل عملي؛ حتى يتعودوا عليها في كل المواقف وفي كل المحافل.
إجلال الكبير من سنن الأنبياء ومن سمات المجتمع المسلم:
انظر موقف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع والد سيدنا أبي بكر الصديق عند فتح مكة عندما أسلم، وأراد أن يأتي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليعلن إسلامه، فقال صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر الصديق: "ألا تركته في بيته ونذهب نحن إليه.." في إشارة إلى احترام الكبير.
وللكبير مكانته المتميزة في المجتمع المسلم
 الذي يوليه عناية خاصة، ويتعامل معه بكل توقير واحترام، انطلاقًا من تعليمات عديدة لرسولنا الحبيب- صلى الله عليه وسلم- وكلها تحمل معاني معرفة حقوق الكبير والتوقير والإجلال والتشريف، ويقول فيها- صلى الله عليه وسلم-:
1- معرفة حق الكبير: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول- الله صلى الله عليه وسلم-: "من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا؛ فليس منا" (حديث صحيح، رواه البخاري في الأدب، وأبو داود). 
2- توقير الكبير: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر". (حديث حسن رواه أحمد في مسنده والترمذي). 
3- إجلال الكبير: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يُجِل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه" (حديث حسن، رواه أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك). 
4- معرفة شرف الكبير: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا" (حديث صحيح رواه أحمد في مسنده، والترمذي، والحاكم في المستدرك). 
احترام الإخوة والأخوات الكبار:
ومن رُقِي منهج الإسلام الرائع أن ينظم العلاقة بين الإخوة؛ فيجعل للأخ الأكبر أو الأخت الكبرى  احترامًا ومنزلة وحقًّا كحق الوالد أو الوالدة أو قريبًا منه، ذلك أن الأخ الأكبر له دور في رعاية إخوته الصغار؛ سواء في حياة والده أو بعد مماته، وحتى تنتظم الحياة بلا صراع ولا مشكلات، كان التوجيه النبوي العظيم لتنظيم علاقة الإخوة ببعضهم:
روى البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن العاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "حق كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده"، قال الإمام المناوي في فيض القدير، بشرح الجامع الصغير: "أي في وجوب احترامه، وتعظيمه، وتوقيره، وعدم مخالفة ما يشير به ويرتضيه"، وروى الطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان عن كليب الجهني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "الأكبر من الإخوة بمنزلة الأب".  
آداب عامة بحق الكبير:
- أن توقره وتحترمه وتجله وتضعه في مكانة كبيرة تليق به.
- أن تحرص على إكرامه.
- أن تتجنب المزاح غير اللائق معه.
- أن تتجنب كل السلوكيات التي تغضبه.
- الكبير يستشفع بمقامه وبسنه. 
استقبال الكبير:
- أن تنهض من مكانك وتقوم لاستقباله عند قدومه.
- أن تستقبله بالفرح والتهليل والترحاب.
- أن تحرص على عدم الدخول قبله. 
مجلس الكبير:
- أن تجلسه في أفضل مكان.
- أن تتجنب الجلوس في المكان المعد لتكرمته إلا بإذنه.
- أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية.
- أن تتجنب الجلوس في مكان أعلى منه.
- أن تتجنب الجلوس أثناء وقوفه إلا بموافقته.
- أن تتجنب مد رجليك أمامه، وألا تضع رجلاً على رجل بحضرته.
- أن تتجنب النوم أو الاضطجاع بحضرته إلا بإذنه.
- ألا تشير عنده بيدك، وألا تغمز بعينك في حضرته.
- أن تحرص على عدم الخروج من مجلسه إلا بإذنه.
- ألا تفشي له سرًّا. 
الكبير في مجلس العلم:
- أن تحسن الاستماع، وأن تحرص على حضور الذهن والقلب أثناء الشرح، وأن تصغي له بكل جوارحك. 
- أن تقدِّم له التوقير والاحترام والإجلال.
- ألا تبتدئ بالكلام عنده إلا بإذنه، وألا تكثر عليه في السؤال.
- ألا تلحَّ عليه إذا كسل، وألا تراجعه إذا امتنع، وألا تأخذ بثوبه إذا نهض.
- أن تقبِّل يد العلماء الصالحين العاملين بعلمهم.
- أن تدع رأيك لرأي معلمك؛ فإن خطأ المعلم أنفع من صواب المتعلم.
- أن تستأذن قبل الحديث، وألا تقاطع زميلك، وألا تحدث من بجوارك أثناء الشرح، وألا تسأل عما تعرف. 
- عدم إحداث شغب أو ضجيج في مجلسه، يقول الإمام الشافعي: "كنت أصفح الورقة بين يدي الإمام مالك صفحًا رفيقًا له؛ لئلا يسمع وقعها)، وقال الربيع تلميذ الشافعي: "واللّه ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر"، وكان هذا احترامًا وتوقيرًا وتبجيلاً للأستاذ المعلم. 
مخاطبة الكبير أثناء الحديث والحوار:
- أن تخاطبه بلطف وأدب.
- ألا تخاطبه باسمه المجرد، بل بلقب من ألقابه: (الأستاذ- الدكتور- المهندس- أستاذنا الفاضل- معلمنا الجليل- شيخنا المحترم- عمي العزيز- حضرتك- فضيلتك...). 
- أن تخفض صوتك عند التحدث بحضرته.
- ألا تضع يدك في جيبك أثناء التحدث معه.
- أن تحرص على عدم مقاطعته أثناء كلامه، وألا تدر له ظهرك.
- ألا تطلب منه بطريقة الأمر، بل تستأذن منه ما تريده بأسلوب مهذب. 
الكبير في المواصلات:
- أن تحرص على المسارعة بفتح باب السيارة له عند الركوب، وكذلك عند النزول: (دخل زيد بن ثابت على جنازة، فقربوا إليه دابة ليركبها، فجاء عبد الله بن عباس فأخذ بزمام الدابة، فقال زيد بن ثابت له: خل عن الدابة يا ابن عم رسول الله، فقال عبد الله بن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل مع العلماء، فقبل زيد يده، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل مع آل بيت نبينا- صلى الله عليه وسلم). 
- أن تجلسه في أفضل مكان.
- أن تساعده في حمل أمتعته.
- أن تقوم له وتجلسه. 
الأكل مع الكبير:
- أن تحرص على أن يبدأ الطعام أولاً.
- أن تتجنب تناول الطعام مما يليه.
- أن تقوم على خدمته. 
أثناء المسير: حقوق الكبير في الطريق:
- أن تحرص على عدم المشي أمامه إلا أن تسترشد له الطريق.
- أن تساعده في حمل أمتعته.
- أن تأخذ بيد الشيخ الكبير، وترشده عند عبور الطريق. 
الكبير والزيارة:
- حُسن تحري وقت الزيارة، وألا تتصل عليه في أوقات راحته إلا لضرورة.
- ألا تطيل عليه في الحديث.
- أن تتجنب استخدام الهاتف في حضرته إلا بإذنه.

الكبير وشئون حياتك:
- أن تعمل بتوجيهات الكبير في كل أمر إلا في المعصية.
- أن تحرص على مشاورته في كل الأعمال والأمور.
- أن تقبل نصيحته بنفس راضية من غير تضجر ولا تبرم ولا ملل. 
أثناء النوم والراحة:
- أن تحافظ على الهدوء في أوقات راحته. 
الكبير والسلبيات:
- أن تتجنب لومه أو النظر إليه بغضب إذا عمل عملاً لا يعجبك.
- ألا تلحَّ عليه إذا كسل، وألا تراجعه إذا امتنع.
- ألا تبحث عن أخطائه.
- أن تقبل معذرته إن أخطأ أو زلَّ.
- ألا تعرض عنه أو تظهر الملل من طول صحبته. 
(الاحترام) قيمة رائعة تجعل للحياة روحًا وقيمةً ونظامًا راقيًا، وهذه القيمة كطبيعة كل القيم جب أن تكون ثابتةً ومستقرةً ودائمةً، ولا تتغير بتغير الزمن أو الظروف والأحوال، بل يجب أن يكون الالتزام بها سلوكًا طبيعيًّا، يحرص الجميع عليه برضاء نفس وطيب خاطر وبنية التعبد لله تعالى؛ فتكون النتيجة رقي السلوك وعظم الأجر.

احترام الكبير قيمة كادت أن تندثر (2)


احترام الكبير قيمة كادت أن تندثر (2)
بقلم: د. رشاد لاشين
إحياء القيم وإعادة غرسها في النفوس من واجبات الأمة الناهضة التي تسعى للرقيِّ والازدهار والانطلاق لعمارة الأرض وإحياء رسالة الله في الكون، وهي مهمة تحتاج إلى تضافر الجهود والاهتمام بالناشئة، وتوفير المناخ الصالح والقدوة الصالحة والوسائل المتميزة المبتكرة؛ حتى نعيد ما اندثر أو كاد يندثر من قيمنا الرائعة الراقية التي يحتاج إليها الناس جميعًا؛ حتى تستقيم الحياة وترتقي إلى المعالي. 
مآثر رائعة في احترام الكبير والمعلم
* عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أخبروني بشجرةٍ تشبه- أو كالرجل- المسلم لا يتحات ورقها، ولا ولا ولا... تؤتي أكلها كل حين"، قال ابن عمر رضي الله عنه: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان؛ فكرهتُ أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة، فلما قمنا قلتُ لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: ما منعك أن تكلم، قال: لم أركم تكلَّمون فكرهت أن أتكلم، أو أقول شيئًا، قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إليَّ من كذا وكذا. 
* عن ابن بريدة قال: لقد سمعت سمرة بن جندب رضي الله عنه يقول: لقد كنتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامًا فكنتُ أحفظ عنه، وما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسن مني. 
* قال سفيان الثوري لسفيان بن عيينة: ما لك لا تحدث؟! فقال: أمّا وأنت حيٌّ فلا!.
* عن الحسن الخلال قال: كنا عند معتمر بن سليمان يحدثنا؛ إذ أقبل ابنُ المبارك فقطع معتمرُ حديثه فقيل له: حدِّثنا! فقال: إنّا لا نتكلم عند كبرائنا".
* قال مالك بن مغول: "كنتُ أمشي مع طلحة بن مُصرِّف فصِرنا إلى مضيق، فتقدمني ثم قال لي: لو كنتُ أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمتك".
* ذكر ابن الجوزي عن ابن سعيد الأشج أنه قال: "حدثنا ابن إدريس عن ليث قال: كنت أمشي مع طلحة بن مصرف فقال: لو كنت أسن مني بليلة ما تقدمتك..".
فهذا خلقهم رحمهم الله، فالأكبر مقدَّم ولو كان الفارق ليلةً، فكيف إذا كان الفارق سنة أو سنوات؟!
* روى الحسن بن منصور قال كنت مع يحيى وإسحاق بن راهوية يومًا نعود مريضًا، فلما حاذينا الباب تأخر إسحاق، وقال ليحيى: تقدم أنت.. قال: يا أبا زكريا أنت أكبر مني. 
وتتوالى الوصايا من الآباء إلى الأبناء بامتثال ذلك الخلق والحث على التحلي به وعدم التفريط فيه، فهذا أحد الآباء يوصي بنيه حين حضرته الوفاة وصيةً طويلةً، جاء فيها: "وسوِّدوا أكابركم، فإنكم إذا سوَّدتم أكابركم لم يزل لأبيكم فيكم خليفة، وإذا سوَّدتم أصاغركم هان أكابركم على الناس وزهدوا فيكم...". 
* كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من أشد الناس توقيرًا لإخوانه ولمن هو أسن منه، فيروي عنه المروزي أنه جاءه أبو همام راكبًا على حماره، فأخذ له الإمام أحمد بالركاب، وقال المروزي: رأيته فعل هذا بمن هو أسن منه من الشيوخ. 
* ضرب الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي المثل في احترام وتوقير الكبير في تعاملاته عمومًا مع الناس، وخصوصًا في تعامله مع شيخ المجاهدين الشهيد أحمد ياسين؛ فقد كان يقوم على خدمته ويطيعه ويحترمه ويجلُّه ويقبل رأسه ويده ويسعى لإدخال السرور عليه. 
* لذا وجب على الصغار أن يحترموا الكبار ويقدِّروهم ويوقِّروهم ويجلُّوهم؛ تقرُّبًا إلى الله عز وجل، والتماسًا للأجر والثواب.
 كيف نربي أبناءنا على احترام الكبير والمعلم؟
* كن قدوة عملية لأبنائك مع من هم أكبر منك أثناء الزيارات واللقاءات وكافة المحافل. 
* لا تُكثرْ من التنازل عن حقوقك (قيم احترام الكبير) مع أبنائك؛ بدعوى التواضع أو التخفيف من الإجراءات فيفقدوا التدريب ويُضيِّعوا القيمة. 
* حبَّذا لو تدعو معلمي ابنك لزيارتك بمنزلك، فتحتفي به، وتقدم صورةً عمليةً للاحترام والتبجيل أمام أبنائك مع تقديم هدايا بسيطة لهم. 
* حُثّ ابنك دائمًا على توقير المعلم وتبجيله واحترامه.   قم بتعليم قيم احترام الكبير والمعلم لأبنائك