الأحد، 25 يوليو 2010

التكوين الفقهي والثقافى للداعية


التكوين الفقهي والثقافى  للداعية
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد
تقديم الحديث عن التكوين الفقهي للداعية على التكوين الدعوي هو الأقرب إلى المنطق السليم، والمناسب للواقع المشَاهد، وإن كان التكوين الدعوي من الأهمية بمكان؛ إذ إن الداعية دائمًا ما يُسأل من جماهير المسلمين عمَّا أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، فالداعية أو الخطيب أو الإمام هو ملجأ عموم الناس في المسائل الفقهية وأمور الدين، وربما أمور الدنيا في بعض الأحيان.

والداعية أمام هذه الأسئلة ليس أمامه إلا ثلاثة خيارات:
الأول: أن يصمت أو يعتذر عن الإجابة لعدم علمه، وهذا يفقد الناس الثقة فيه، ويعدمه التأثير فيهم، لكنه الصواب بين يدي الله حتى لا يُفتي بغير علم.

الثاني: أن يُفتي بغير علم حتى لا يفقد ثقة الناس، فلا يكاد يُسأل سؤالاً، ويقول لا أعلم، أو الله أعلم، بل يجيب عن كل ماُ يُسأل عنه ويتحدث بكل ما علم، وهذه هي الطامة الكبرى، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المسلك، حين روى البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جهَّالا، فسُئلوا، فأفتَوْا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا" (صحيح البخاري: كتاب العلم، باب: كيف يُقبض العلم).

وقال ابن عطاء الله في حكمه المعروفة: "من رأيته مجيبًا عن كل ما سُئل، ومعبرًا عن كل ما شَهِد، وذاكرًا كل ما علم فيُستدل بذلك على وجود جهله".

ولأن الحديث عن الشيء مع عدم العلم به يُوقع صاحبه في متناقضات، ربما أدَّت إلى التكذيب به والإنكار عليه، فقد عاب القرآن على أقوام سلكوا هذا المسلك حين قال: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ (يونس: من الآية ٣٩).

وكم حذَّر علماؤنا من مغبَّة الإفتاء بغير علم، فضلاً عن تاريخ الصحابة والتابعين والسلف الصالح المليء ببيان خطر الإفتاء والتهرُّب من الفتوى وإحالتها بعضهم على بعض (راجع في هذا بتوسع بدايات كتاب إعلام الموقعين لابن القيم).

الخيار الثالث- وهو الصواب: أن يجيبهم على تساؤلاتهم بعلم وبيِّنة، وحكمة وبصيرة، وهذا هو الخيار الذي لا يسع الداعية سواه، ومن هنا وجب عليه أن ينظر في أمره، ويخطط ليُكوِّن نفسه تكوينًا فقهيًّا راسخًا يمكِّنه من الوفاء بحاجات الناس، فضلاً عن رفع الجهل عن نفسه، وهو مستوى يطالب به كل المسلمين، ومن هنا فإن هناك أسئلةً ينبغي طرحها في المطلب التالي.

المطلب الأول: أسئلة أمام الداعية المتفقِّه
وهنا يثار عدد من الأسئلة أمام الداعية الذي يريد أن يكوِّن نفسه تكوينًا فقهيًّا، هل يبدأ من الكتب الميسَّرة السهلة المعاصرة؟ أم يبدأ بأمهات الكتب القديمة التي تحتوي على شروح وحواشٍ؟ وهل يتفقَّه على مذهب واحد أم يقرأ في كل المذاهب؟ أم يترك المذهبية ويقرأ في الفقه المعاصر الذي تميَّز بالتخلص من المذهبية، واتسم بالتحرر والعصرية؟ وهل إذا كان متعلمًا للفقه على مذهب واحد وجب عليه أن يُفتي بمقتضاه حتى لو اختلف مع الأشخاص والعصور والبيئات التي ساد فيها فقه آخر؟ وهل يُنكر ما عليه الناس؛ مما يعدُّ مخالفًا لمذهبه في مذاهب أخرى حتى لو كانت المسألة خلافية فيها أكثر من رأي؟ وهل يتعلم على يد شيخ يأخذ عنه الفقه؟ أم بوسعه أن يحصِّل العلم الشرعي وحده؟ لا سيما في عصرنا الذي تيسرت فيه أسباب العلم من أسطوانات مدمجة ومواقع إنترنت، مع وجود الكتب والمؤلفات التي تعرض العلوم مقرَّبة ميسَّرة؟!.

كل هذه أسئلة نحاول أن نجيب عنها في السطور التالية؛ كي يكون التكوين الفقهي للداعية على علم وحكمة وفهم وبصيرة، يرفع به الجهل عن نفسه أولاً، ويوفِّي به حاجات جمهور المسلمين.

أهمية الشيخ:
وجود الشيخ المُعلِّم يعتبر أمرًا مهمًّا في طريق طلب العلم الشرعي، حتى مع تيسير العلوم وتوافر وسائلها، وإذا كان المعلم ضرورةً لا غنى عنها في تلقي العلوم الدنيوية من طب وهندسة وغيرها من علوم، فإن وجوده في تلقِّي العلم الشرعي له أهمية خاصة.

وتكمن أهمية تلقِّي العلوم الشرعية على شيخ في مجموعة أمور، لعلَّ من أهمها ما يلي:
أولاً: إن الشيخ يوفِّر على المتعلِّم كثيرًا من الجهد في فهم مسائل هذه العلوم؛ لأن هذا الشيخ له معاناته السابقة في فهم هذا العلم، وسؤال العلماء عمَّا يعنُّ له حتى استوعب هذه المسائل، وفهم تلك العلوم، وهو ما يوفِّر الجهد في الاستيعاب، والطاقة في التحصيل.

ثانيًا: إن الشيخ يوفِّر على المتعلِّم طول الوقت في طريق التحصيل؛ لأنه يضع قدمه على الطريق الصحيح ابتداءً، والمتعلِّم بلا شيخ ربما بدأ طريقه بانحراف يسير، ثم مع مرور الزمن يتسع هذا الانحراف شيئًا فشيئًا، إلى أن ينتهي نهاية بعيدة كل البعد عن العلم السليم وطريقه الصحيح، فضلاً عن أن يبدأ بانحراف واسع، فينتهي إلى الضلال، وقد قال فقهاؤنا: "يُغتفر في النهايات ما لا يغتفر في البدايات"، فالخطأ في أساس البناء لا يُغتفر بحال من الأحوال إلا بهدم هذا البناء، أمَّا الخطأ في الأدوار العليا ربما وجدنا وسيلةً أو أخرى لاستدراك ما حدث من خطأ أو انحراف.

ثالثًا: إن الشيخ يبيِّن للمتعلِّم مصطلحات هذه العلوم، وهذه العلوم لها خصوصيتها في مصطلحاتها، ودلالات هذه المصطلحات، وفي الفقه على وجه أخص لا سيما في الفقه المذهبي الذي له رموزه ومصطلحاته التي تعبِّر عن مضامين ومسميات خاصة، لا يعرفها إلا أهل التخصص ومشايخ العلوم الشرعية، وبدون توضيح هذه الرموز والوقوف على معاني تلك المصطلحات يشعر المتعلِّم أنه لا يفهم شيئًا (ألَّف الدكتور علي جمعة كتابه "المدخل"، وأحصى فيه هذه المصطلحات والرموز بعد أن قضى في جمعها عشر سنوات، وهو جهد طيب ومبارك انتفع به طلاب العلم عامةً، وطلابه على وجه الخصوص).

كيف يُختار الشيخ؟
ولا ينبغي للمتعلم أن يختار أي شيخ من الشيوخ، بل لا بد أن تتوافر فيه صفات هي ما ينبغي أن يتمتع بها من يكون اختياره موفَّقًا، ومن أهم هذه المواصفات:

أولاً: أن يكون على خلق طيب وصلة قوية بالله، وهذا من أهم الأمور؛ لأن العالم الموصول بالله سيُراعي في المتعلِّم هذا الجانب ويسقيه مع العلم الخلق والتقوى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) (آل عمران).

ثانيًا: أن يكون عالمًا متمكنًا، فالعالم المتمكن هو الذي يعرف خبايا العلم، وأين معاقله وفرائده، وأين مكامن القوة فيه ومواضع الصعوبات، فلكل علم رجاله، ولا ينبئك مثل خبير.

ثالثًا: أن يكون عاملاً بعلمه، فعلم بلا عمل لا قيمة له، وعمل بلا علم يؤدِّي إلى بدعة وضلالة، فلا يبلغ العالم أن يكون ربانيًّا إلا إذا جمع بين العلم والعمل والتعليم.

رابعًا: أن يكون عالمًا مهمومًا بقضايا الأمة، وليس مجرد داعية أو شيخ يجلس لتعليم الناس- وهذا مهم- أو يُلقي الخطب والدروس، لكن يكون عالمًا مجاهدًا يجأر بالحق، ويصدع بالصدق، ويحيي قضايا أمته الكبرى، ولا يخشى في الله لومة لائم.

المطلب الثاني: خطوات هامة تتصل بالداعية ومنهجية التعلُّم:
ولكي يكون منطلق الداعية المتفقِّه منطلقًا ثابتًا راسخًا، سليمًا صحيحًا، ينبغي عليه أن يسلك سبيل مجموعة من الخطوات التي تصحِّح له مساره، وتجعله موفقًَا مسددًا، وهذه الخطوات منها ما يتصل بالداعية المتعلم بشكل عام، سواء كان تكوِّنه فقهيًّا أم غير ذلك، ومنها ما يتصل بطريقة التعلُّم ومنهجيته.

الفرع الأول: ما يتصل بالداعية:
ولعل من أهم ما يتعلق بالداعية نفسه ما يلي:
أولاً: إخلاص النيَّة، فإن النيَّة هي روح العمل، وبغيرها يصبح العمل جثةً هامدةً لا روح فيه ولا أثر لها، وقديمًا قال ابن عطاء الله: "الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها". ومكانة النيَّة والإخلاص في الأعمال أمر مفروغ منه، لا يستدعي مزيد بيان واستشهاد من القرآن أو السنة، وحسبنا أنها مناط القبول عند الله تعالى، وإنما لكل امرئ ما نوى، وكما قال البحتري: "نفس تضيء وهمة تتوقد"، فعبَّر عن النية الصالحة بالضياء، وعن الهمة العالية بالتوقُّد.

ثانيًا: استشعار أهمية الرسالة التي أقامه الله فيها، واستأمنه عليها، وهي رسالة الأنبياء والمرسلين، وميراث الأنبياء، فإنهم لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، وهو مقام جليل يعبر عنه ابن عطاء الله حين قال: "إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك، فانظر فيما أقامك".

ثالثًا: إرادة التعلم، حيث إن كثيرًا ممن يريدون أن يتعلموا يبدءون في سلك سبيل التعلم ثم بعد فترة يسيرة من الزمن يتراجعون ويتساقطون، ومن هنا تبدو أهمية قوة الإرادة وصلابة العزيمة وعلو الهمة، وقد قال أبو الطيب في هذا المعنى:

الرأي قبل شجاعة الشجعان     هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة     بلغت من العلياء كل مكان
رابعًا: استفراغ الوسع وبذل الجهد، فإن من رام شيئًا جاهد من أجله وبذل فيه النفس والنفيس، ومن أحسن عملاً فلن يضيع الله أجره، ومن طلب شيئًا وبذل أسبابه وفقه الله وزاده توفيقًا.

خامسًا: وضوح الرؤية واستصحاب الهدف: وهذه من الأمور المهمة التي يجب أن يدركها المتكوِّن، فتكون حاضرة عنده لا تغيب، حتى لا يضل الطريق، أو يميل به السبيل، فيطول عليه المقصود، ويبعد عنه هدفه المروم، وهذا يوجب عليه أن تكون رؤيته واضحة، مستصحبًا لهدفه في كل وقت.

سادسا: قياس مدى ما حققه من إنتاج، فالمتعلم لو لم تكن له خطة بناء على وضوح الرؤية وتحديد الهدف، فلن يكون سيره منتجًا على المستوى المطلوب، ومن هنا كان من الأوقع له تحقيقًا للهدف وتحسينًا في التعلم، وتجويدًا في السير: أن يضع لنفسه خطة إنجاز ثم يتابع نفسه فيها من خلال قياس ما حققه على ما كان مطلوبًا.

سابعًا: المداومة والاستمرار- وهي مترتبة على ما قبلها ونتيجة طبيعية لها- فحين يصدق العزم وتعلو الهمة لا شك يكون الاستمرار والدوام، مهما كانت العقبات، ووقفت أمامه الأغيار والمعطلات، وخير الأعمال عند الله أدومها وإن قل.

الفرع الثاني: طريق التعلم ومنهجيته:
أما فيما يتصل بطريق التعلم ومنهجيته في محاولة لإجابة بعض الأسئلة المهمة السابقة، فلعل من أهمها ما يلي:

أولاً: أن يتعرف على شيخ أو أكثر في كل علم ليكون مرجعه وموئله الذي يرجع إليه ويستفسر منه ويتعلم عليه ويستشيره فيما يعن له من مسائل العلم، وبتعرفه على الشيخ سيوفر عليه الكثير من الجهد والوقت والمعاناة، وينتفع بما ذكرناه قبل قليل في أهمية الشيخ.

ثانيًا: أن يبدأ في الفقه بالكتب الميسرة السهلة القريبة المأخذ، التي لا تتقيد بمذهب، مثل كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق، والفقه الواضح للدكتور محمد بكر إسماعيل، ويستوعبها استيعابًا جيدًا، ثم بعد ذلك يسعه أن يتدرج مع الكتب في مستوياتها المختلفة.

ثالثًا: يسعه بعد ذلك أن يقرأ كتابًا موسعًا مثل: "الشرح الممتع" للعلامة ابن عثيمين، و"نيل الأوطار" للشوكاني، أو "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد، ثم بعد ذلك يطالع موسوعة مثل "المغني" لابن قدامة، أو "المجموع" للنووي، يرجع في ذلك كله إلى شيخه ويتابع معه ما يعرض له من صعوبات وإشكالات.

رابعًا: إذا أراد أن يتمذهب ويتبحر في أحد المذاهب الفقهية فلا بأس، بل ربما يكون مطلوبًا لطلب العلم الشرعي وبخاصة في الفقه، مع مراعاة أن هذه المذاهب غير متعبد بها إنما هو يتمذهب فقط كطريقة إجرائية للتعلم بلا تعصب أو إنكار على المخالف فيما يجوز فيه الخلاف، ثم إذا نزل في بيئة تتعبد على مذهبٍ غير مذهبه وجب عليه أن يتعرف على هذه البيئة ويتفقه في هذا المذهب لئلا يصطدم بالناس فيسيء من حيث أراد الإحسان وتصاب الدعوة على يديه بهزائم شديدة.

خامسًا: من الحكمة ألا يُدخل نفسه في عويص المسائل وكبير القضايا التي تجتمع لها المجامع ويُحشد لها كبار العلماء، فليحرص طالب العلم على البدء بصغار العلم قبل كباره، ولا يحاول أن يأخذ العلم جُملة، فإن من رامه جملة ذهب منه جملة، وقد قال الإمام البخاري رحمه الله: "الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره" (صحيح البخاري: كتاب العلم- باب: العلم قبل القول والعمل).

سادسًا: الإلمام بعلم أصول الفقه، وهو علم على درجة كبيرة من الأهمية إذ لا يصح العلم الحقيقي بالفقه إلا به؛ لأنه إذا كان علم مصطلح الحديث يُسلِّم لنا الدليل، فإن علم أصول الفقه يسلم لنا الدلالة.

ويليق للمبتدئ أن يتصفح كتابًا مبسطًا مثل كتاب: "الأصول من علم الأصول"، للشيخ محمد الصالح بن عثيمين، أو كتاب: "تيسير علم أصول الفقه" لعبد الله الجديع، أو كتاب: "علم أصول الفقه" للشيخ عبد الوهاب خلاف، ثم يقرأ بعد ذلك- إن شاء- الكتب المعاصرة التي تم تأليفها في القرن العشرين على يد كبار الفقهاء والمجتهدين في هذا الزمان، ومنها: "أصول التشريع الإسلامي" للشيخ علي حسب الله، و"أصول الفقه" للشيخ محمد أبو زهرة، و"أصول الفقه" للشيخ محمد الخضري، و"الوجيز في أصول الفقه" للدكتور عبد الكريم زيدان، وإن أراد التوسع فليقرأ كتاب: "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول"، للعلامة الشوكاني.

سابعًا: الاطلاع على القواعد والضوابط الفقهية، وهو علم مهم في اتصاله بعلم الفقه؛ لأنه بغير القواعد أو الضوابط لا يستطيع الإنسان أن يضبط الفروع، فمعرفة القواعد والإلمام بالضوابط يربي عقلية علمية وينشئ ملكة فقهية؛ لأن القاعدة قضية كلية تضم تحتها فروعًا كثيرةً، ويناسب المبتدئ في هذا العلم أن يقرأ كتاب: القواعد الكلية والضوابط الفقهية للدكتور محمد عثمان شبير، أو كتاب: القواعد الفقهية للدكتور علي أحمد الندوي، أو كتاب: القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه للدكتور محمد بكر إسماعيل، ثم إن شاء التوسع فكتاب: الأشباه والنظائر للسيوطي، ولابن نجيم أيضًا بنفس العنوان.

ثامنًا: الإلمام الواسع بعلم مقاصد الشريعة؛ لأن لذلك أثره الكبير والعميق في نجاح الدعوة إلى الله تعالى، فمن مراعاة المقاصد والتمكن فيها ينجح الداعية في قراءة الواقع، ومراعاة الأعراف، ووزن المصالح والمفاسد.. إلخ، وكل ذلك من ضروريات الدعوة.

وفي عصرنا برزت صحوة أكاديمية في دراسة المقاصد؛ فهناك العشرات من الرسائل الجامعية والدراسات والأبحاث في المقاصد، بل أصبح يعقد لها مؤتمرات خاصة بها، فضلاً عن مقررات خاصة تدرس في المقاصد وتقرر على الطلاب.

ومن أهم المراجع التي يمكن أن يقرأها الداعية في هذا: "نحو تفعيل مقاصد الشريعة" للدكتور جمال عطية، و"مقاصد الشريعة الإسلامية" لمحمد الطاهر بن عاشور، و"الموافقات في أصول الشريعة" للإمام الشاطبي، بالإضافة للدراسات غير المحصورة للعلماء والباحثين المعاصرين.

تاسعًا: ويطيب بعد ذلك للداعية في تكوينه الفقهي أن يلم إلمامًا معقولاً بأنواع جديدة من الفقه نوه بها ودعا إليها كثير من علماء العصر مثل: فقه الأولويات، وفقه الموازنات، وفقه السنن، وفقه الواقع، وفقه النسب ومراتب الأعمال، إضافة إلى فقه النصوص الذي يعالجه علم الفقه، وغيرها من أنواع مما له جذور في تاريخنا الفقهي، وازداد تأصيله والتنويه به في عصرنا الحاضر.

ولا يخفى ما لهذه الأنواع من الفقه من أهمية في فهم الداعية وأثرها في معايشته لقضايا أمته، ونجاحه في دعوته في مجتمع من المجتمعات.

أعتقد أنه لو قام بهذه الوسائل وسلك هذه الطريق على هذا النحو سيكون تكوينه واعدًا، ومبشرًا بداعية متمكن يراعي مقتضيات العصر في ضوء محكمات الشرع، معتبرًا اختلاف الأعراف والبيئات والأشخاص، مراعيًا للمقاصد والأوليات، مدركًا متطلبات كل عصر وزمان بما لا يتنافى مع أصول الإسلام وأهدافه العامة، وهو ما ينبغي أن يتربى عليه الدعاة.
التكوين الثقافي للداعية
هو تكوين بدهي ومنطقي؛ إذ كيف يكون داعية من لم يتكوَّن دعويًّا؟ ونعني بالتكوين الدعوي ما يُمكِّن الداعية من تبليغ دعوته إلى الناس بعلمٍ وفهمٍ، وحكمة وبصيرة، وللتكوين الدعوي هنا محوران:

المحور الأول: الإلمام بتاريخ الدعوة وسيرة أعلامها مجملاً وما أُلِّفَ فيها.

المحور الثاني: ما يسمى بـ: "فقه الدعوة"، وهو علم يجب على الداعية أن يتبحر فيه كي يستطيع أن يمارس دعوته على بصيرة.

المطلب الأول: تاريخ الدعوة وأعلامها ومؤلفاتها:
والمقصود بتاريخ الدعوة هنا أن يلم الداعية إلمامًا جيدًا بتاريخ الدعوة الإسلامية عبر مراحلها المختلفة، ابتداءً بعصر النبي- صلى الله عليه وسلم- ومرورًا بالعصر الأموي ثم العباسي، ثم العثماني، ثم تاريخ الدعوة في كلِّ دولة من الدول الإسلامية التي قامت فيها دعوة إسلامية في بلاد مختلفة، مثل: مصر، وبلاد الأندلس، والمغرب العربي، وغيرها.

الفرع الأول: تاريخ الدعوات قبل النبي وبعده:
ومن المفيد قطعًا أن يطالع تاريخ الدعوات الأخرى قبل النبي- صلى الله عليه وسلم- فيقرأ سير الأنبياء وتاريخ دعوتهم مع أقوامهم، ومراحلها، وكيف كانت نهاياتها، وليس أمامنا مصدر موثوق به في هذا الصدد إلا ما ورد في القرآن الكريم.

ثم يطالع بعد ذلك تاريخ الدعوات المعاصرة، مثل دعوة محمد بن عبد الوهاب، ودعوة النورسي، ودعوة السنوسي، ودعوة محمد عبده، ودعوة أبي الأعلى المودودي، ودعوة حسن البنا، وغيرها من الدعوات؛ ليستخلص أروع ما فيها من فوائد وإيجابيات، ويتجنب أبرز ما فيها من أضرار وسلبيات، وهذا يعطيه بُعدًا ثقافيًّا وأفقًا فكريًّا جديدًا يتميز بالواقعية والإمكانية القريبة للقياس عليه، والأخذ منه والانتفاع به.

والمطلوب من الداعية في هذا التاريخ أن يتعرَّف على أحداثه بشكل توثيقي يضمن معه صحة الأحداث، ويقرأ وقائعه ومعاركه، وكيف تكونت كل دولة، والبحث عن أسباب ازدهارها وقوتها، والتعرف على عوامل سقوطها وانهيارها.

كما ينبغي عليه أن يتعرَّف على أعلام الدعوة في كلِّ مرحلة من مراحلها، وفي كلِّ خلافة قامت في تاريخها؛ بحيث يقرأ سيرهم وتاريخهم؛ ليقف على طبيعة دعوتهم وتكوين أعلامهم، وكيف كان دورهم في نشر دعوتهم، وجهادهم وتضحيتهم، وصبرهم على ما لاقوه من محن وابتلاءات.

كل هذا عن طريق الكتب التي اهتمت برواية هذا التاريخ بعيدًا عن الاتجاهات المختلفة التي فسَّرت التاريخ حسب أهوائها ومذاهبها، ومللها ونحلها، بل يقرأ التاريخ أحداثًا فقط عبر مصادره الموثقة، في مثل: البداية والنهاية لابن كثير، والكامل لابن الأثير، وسيرة ابن هشام، وغيرها، حتى يسلم له الحدث التاريخي خالصًا صافيًّا قبل أن تشوبه التفسيرات الحزبية والمذهبية التي غالبًا ما يشوبها التعصب للمذهب أو الطائفة.

الفرع الثاني: تاريخ الرجال:
وإذا كانت هذه هي مصادر التاريخ وأحداثه، فإن لتاريخ الرجال كتبًا أخرى ينبغي مطالعتها في سير الرجال والدعاة وتراجمهم، مثل: كتاب "سير أعلام النبلاء" للذهبي، و"النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين" لمحمد رجب البيومي، و"رجال من التاريخ" لعلي الطنطاوي، و"عظماؤنا في التاريخ" لمصطفى السباعي، وكتب الأعلام التي كتبها محمد أبو زهرة: "أبو حنيفة"، و"مالك"، و"الشافعي"، و"ابن حنبل"، و"ابن حزم"، وغيرهم، و"علماء في وجه الطغيان" لمحمد رجب البيومي، و"نُزْهَة الخواطر" لعبد الحي الحسني والد الشيخ أبي الحسن الندوي، و"من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة" لعبد الله العقيل، و"علماء ومفكرون عرفتهم" لمحمد المجذوب، و"رجال الفكر والدعوة في الإسلام" للشيخ أبي الحسن الندوي، بالإضافة إلى سلسلة "أعلام المسلمين" وسلسلة "علماء ومفكرون معاصرون" اللتين تصدرهما دار القلم بدمشق.

ومن المهم الاطلاع على ما كتبه بعض الدعاة من سير ذاتية ومذكرات شخصية لهم، مثل المشايخ: حسن البنا، وعبد الحليم محمود، ويوسف القرضاوي، وعلي الطنطاوي، وأبو الحسن الندوي، ومالك بن نبي، وأبي الأعلى المودودي، ومصطفى السباعي، وعبد الحميد كشك، وحسنين مخلوف، وخالد محمد خالد، وحسن العشماوي، وعبد العزيز كامل، وتوفيق الشاوي، وأحمد حسن الباقوري، وغيرهم كثير.

الفرع الثالث: مؤلفات في علم الدعوة:
ومما يندرج تحت هذا المحور قراءة المؤلفات التي أُلفت في الدعوة كعلم وهي من الأهمية بمكان؛ حيث يدرس الداعية الدعوة دراسة علمية، ومن أهم هذه الكتب: كتاب "أصول الدعوة" لعبد الكريم زيدان، وبنفس العنوان لعبد الرحمن عبد الخالق، و"المدخل إلى علم الدعوة" لمحمد أبو الفتح البيانوني، و"مع الله دراسات في الدعوة والدعاة" لمحمد الغزالي، و"الدعوة قواعد وأصول" لجمعة أمين عبد العزيز، و"أسس الدعوة" لمحمد الوكيل، و"الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها" لأحمد أحمد غلوش، و"الدعوة إلى الإسلام وأركانها" لأحمد عز الدين البيانوني، و"الدعوة الإسلاميَّة دعوةٌ عالميَّة" لمحمد الراوي، و"فصولٌ في الدعوة الإسلامية" لحسن عيسى عبد الظاهر، و"الدعوة إلى الله" لتوفيق الواعي، وغيرها كثير.

المطلب الثاني: فقه الدعوة
أما المحور الثاني في التكوين الدعوي للداعية فهو ما أسميناه "فقه الدعوة"، والفقه هنا- الذي يعني الفهم لغة- يجمع بين أمرين:

الأول: العلم بماهية الدعوة إلى الله تعالى، وبموضوعها، وبطرق كسب ذلك العلم، والثاني: العلم بقواعد وأحكام تنزيل ذلك على واقع الناس في كلِّ تفاصيله وحاجاته.

فنحن هنا إذن في حاجة إلى أمرين عظيمين: العلم بحقيقة الدعوة، والعلم بطريقة تنزيل تلك الحقيقة؛ لتصبح واقعًا معيشًا ومهيمنًا على الحياة ومنظمًا لها وصانعًا لمضامينها.

وإذا كان الإلمام بتاريخ الأنبياء والرسل، وتاريخ الدعوات من بعدهم هو الإحاطة النظرية والعلمية بالدعوة إلى الله، فإن المقصود بفقه الدعوة أن يتعمق الداعية في أحداث التاريخ، ويتأمل تاريخ الدعوات؛ ليستخلص منه العبر البليغة والدروس النافعة التي تساعده في فَهم الواقع، ويجد فيها تعزية وأسوة وسلوى، ويتلمس فيها الضياء الذي ينير له الطريق.

ومَثَلُ علم الدعوة وعلم فقه الدعوة كمثل التاريخ وفقه التاريخ وفلسفته، فإذا كان علم التاريخ يهتم بالأحداث وتصحيحها وتوثيقها، فإن فلسفة التاريخ وفقه التاريخ يتجاوز ذلك إلى تفسير الأحداث، والتماس العبرة النافعة والدروس المستفادة التي يعبر بها الدعاة والعلماء من القديم إلى الحديث إلى الواقع إلى استشراف المستقبل، فكذلك علم فقه الدعوة يتجاوز الدعوة كتاريخ وعلم إلى كيفية الدعوة إلى الله تعالى بمراعاة الزمان والبيئات، واعتبار الأعراف واختلاف الناس بما لا يتعارض مع محكمات الشرع، وبهذا تكون الدعوة على بصيرة كما قرَّر القرآن الكريم: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: من الآية 108).

ومن خلال التأمل في تاريخ الدعوات، سواء دعوات الأنبياء قبل دعوة الإسلام أو الفترة المكية والمدنية أو دعوات الإصلاح الحديث يستطيع الداعية أن يقف على أسباب النصر وأسباب الهزيمة، وأسباب التقدم وأسباب التخلف وأسباب نهوض الأمم وعوامل سقوطها، فيُدرك أهمية الارتقاء بالمستوى الروحي، وأهمية عمق الإيمان واليقين، وضرورة العلم في النهوض بالأفراد والجماعات، وأن الصراع بين الحق والباطل سُنَّة أبدية من سُنن الله الجارية التي لا تبديل لها ولا تحويل، وأن من أسباب النصر تربية الناس على الاعتزاز بالإسلام، وبثُّ الأمل في نفوس المسلمين، وهذا كله يُستقى من القرآن والسنة والسيرة.

الفرع الأول: أهمية القرآن مصدرًا للداعية:
وأهم مصدر على الإطلاق في هذا السياق وأول المصادر التي يجب أن يرجع إليها الداعية ويهتم بها اهتمامًا بالغًا هو القرآن الكريم؛ ذلك أنه حوى بين دفتيه ما يُبصِّر الداعية بطبيعة الطريق، ويضع يديه على بدايات المشوار وأحداثه ونهاياته، طبيعة العقيدة، وطريقة التبليغ، وطبيعة استقبال القوم لها، وحقيقة مشاعر الرسول، وتحقق النذير، وذلك مع كل دعوة من الدعوات، فالقرآن العظيم مليء بقصص السابقين من الأنبياء والدعاة.

وهناك قواعد كلية كثيرة تتخلل القصص القرآني أو تسبقه أو تتلوه مثل: وحدة الإيمان، ووحدة العقيدة، ومتى انتهت إلى إسلام النفس لله والإيمان به إيمانًا ينبثق منه العمل الصالح، وإن فضل الله ليس حجرًا محجورًا على عصبة خاصة، إنما هو للمؤمنين أجمعين.

كما نُدرك أهمية القصص القرآني في تركيز قواعد التصور الإسلامي وحقائقه، ومنها: حقيقة الوحي الذي يتلو عليهم أخبار أمم بائدة لم يشهدها الرسول المنزَّل عليه هذا الوحي، وحقيقة وحدة العقيدة والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير، وحقيقة تكرار الاعتراضات والاتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا تمنع جيلاً أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل، وحقيقة تحقق البشرى والوعيد، كما يبشر النبي وينذر، وهذا شاهد من التاريخ، وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) (القصص)، وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد، وبين جيل وجيل، وهي العقيدة الواحدة التي تربط المؤمنين كلهم في إله واحد(1).

كما يتعلم الداعية من خلال هذا القصص الصبر الجميل والنفس الطويل في مواجهة نفوس طال عليها الأمد وهي بعيدة كثيرًا أو قليلاً عن منهج الله تعالى، وهو ما يحتاج إلى صبر على الالتواءات والانحرافات وثقل الطبائع وتفاهة الاهتمامات؛ كما توجب عليه أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كلِّ مرحلة، ومن ثم فليس القصص القرآني مجرد حكايات تُروى، ولكنه لمسات وإيحاءات مقدرة تقديرًا.

كلُّ هذا وغيره يستخلصه الداعية من القرآن الكريم عبر قصصه ومواقفه، وأفكاره وتصوراته، وقيمه وموازينه فيما يقدمه بين يدي ما يقصه علينا من أنباء السابقين، وحسبنا في هذا المقام ما للأستاذ سيد قطب من كلمة طيبة تعبِّر أجمل تعبير، وتدل أتم دلالة وأصدقها فيما يتصل بهذا الأمر في خواطره في نهاية سورة هود، وقد قصَّ القرآن على النبي من نبأ الأولين، فيقول يرحمه الله: لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها، والدعوة الإسلامية مجمدة فيها، والطريق شاق طويل لا يكاد المسلمون يرون له نهاية!

فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق؛ ويريهم معالمه في مراحله جميعًا؛ ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق؛ وقد بات لاحقًا موصولاً بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري؛ وبات بهذا الركب الكريم مأنوسًا مألوفًا لا موحشًا ولا مخوفًا!

إنهم زُمرة من موكب موصول في طريق معروف؛ وليسوا مجموعة شاردة في تيه مقطوع!

وإنهم ليمضون من نقطة البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية؛ ولا يمضون هكذا جزافًا يتبعون الصدفة العابرة! هكذا كان القرآن يتحرَّك في الصف المسلم؛ ويُحرِّك هذا الوصف حركة مرسومة مأمونة، وهكذا يمكن اليوم وغدًا أن يتحرك القرآن في طلائع البعث الإسلامي، ويحركها كذلك في طريق الدعوة المرسوم.

إن هذه الطلائع في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه، تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها؛ وتستوحيه في ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات؛ وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق، والقرآن بهذه الصورة لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة، ولكنه ينتفض حيًّا يتنزل اللحظة على الجماعة المسلمة المتحركة، لتتحرك به، وتتابع توجيهاته، وتتوقع موعود الله فيه. أ.هـ.

الفرع الثاني: أهمية السنة مصدرا للداعية(2)
ومن المصادر المهمة هنا في تكوين الداعية وبخاصة في مجال فقه الدعوة، السنة النبوية الشريفة؛ حيث ينبغي للداعية أن يتأمل أقوال النبي- صلى الله عليه وسلم- ليتعلم منها الحكمة وفصل الخطاب، وكيف كان كلامه قليلاً ومع ذلك يعبِّر عن معانٍ كبيرة وجامعة، كما أنه سيجد أساليب النبي في الدعوة من خلال أقواله؛ حيث كان يستخدم أساليب كثيرة، منها:
1- ضرب المثل:
فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسوق، داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟" فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء. وما نصنع به؟ قال "أتحبون أنه لكم؟" قالوا: والله لو كان حيًّا، كان عيبًا فيه؛ لأنه أسك. فكيف وهو ميت؟ فقال "فوالله للدنيا أهون على الله، من هذا عليكم"(3).

2- البيان بالرسم:
فعن عبد الله بن مسعود قال: خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا ثم قال: "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال: "هذه سبل" قال يزيد: "متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ (الأنعام: من الآية 153)" (4).

وعن عبد الله رضي الله عنه قال: خطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطًا مربعًا، وخط خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به- أو: قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا"(5). وما أكثر الوسائل التقنية التي يمكن للداعية أن يبين ويوضح من خلالها في هذا العصر.

3- حسن الاستهلال في الحديث:
عن طريق السؤال مثلاً، كما في حديث: "أتدرون من المفلس؟" أو حديث: "ما تعدون الصرعة فيكم؟"(6)، وهذا أسلوب يجذب السامع، ويعلق بصره وسمعه وقلبه بالداعية.

4- الرفق واللين:

وفي موقف مَن جاءه ليرخِّص له في الزنا خير مثال على ذلك، وكانت عاقبته مع النبي بفضل رفقه معه، فعن أبي أمامة قال: إن فتى شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مه مه، فقال: "ادنه" فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: "أتحبه لأمك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم"، قال: "أفتحبه لأختك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم"، قال: "أفتحبه لعمتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم"، قال: "أفتحبه لخالتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم"، قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه"، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء"(7).

وهناك أمور كثيرة وجوانب عديدة يستطيع الداعية أن يحصلها من أقوال النبي في المقامات المختلفة يصعب حصرها، ومن المهم هنا أن يفرِّق الداعية بين حال وحال، وبين شخص وشخص، وبين مكان وآخر، وبين زمان وغيره، وهذا باب واسع يستحق دراسة منفصلة تستقصي أساليب النبي- صلى الله عليه وسلم- في هذا الجانب؛ ليكون الداعية متمكنًا من فقه الدعوة.

الفرع الثالث: أهمية السيرة مصدرًا للداعية:
وإذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية من أهم المصادر التي يجب على الداعية أن يعتمدها في فقه الدعوة وطبيعة الطريق، فإن السيرة النبوية العطرة هي التي ترجمت هذا القرآن وجعلت منه كائنًا حيًّا يمشي على الأرض، وينتفض بين الناس، ومن هنا تأتي أهمية السيرة في التكوين الدعوي أو تكوين الفقه الدعوي لدى الداعية.

ولن يجد الداعية فروقًا بين سيرة النبي وسير الأنبياء السابقين إلا كما الفرق بين النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- وبين الأنبياء السابقين في عالمية الرسالة وشمولها؛ ما تطلب مقومات نبوية وتشريعات ربانية تناسب هذه المعطيات.


غير أن دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم- تلتقي في خطوطها العامة مع كلِّ دعوات المرسلين في قواعد التصور وحقائق الوجود، وطبيعة الطريق ابتداءً وانتهاءً.

ويليق للداعية هنا أن يتجاوز- وهو يتكون في فقه السيرة- أحداث السيرة إلى قراءة ما خلف الأحداث، وما تعطيه من عبرة وعظة، ويعينه على ذلك أن يطالع ما كتبه العلماء الربانيون حول فقه السيرة، مثل الشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والشيخ منير الغضبان- وكتبه معروفة في هذا الشأن- والدكتور مصطفى السباعي، ولا يفوته أن يتأمل ما كتبه الأستاذ سيد قطب من خواطر حول أحداث السيرة النبوية في القرآن الكريم، فإن فيها من الخير الكثير.

الفرع الرابع: مؤلفات في فقه الدعوة:
وبالإضافة إلى القرآن الكريم والسيرة النبوية المطهرة فإن هناك مؤلفات اهتمت بفقه الدعوة وليس مجرد الدعوة؛ ولكي ينطلق الداعية ويتكون تكونًا مُرضيًا يجب عليه أن يدرس هذه المؤلفات التي اعتنت عناية بالغة بهذا الشأن، ومن أهم هذه الكتب:
كتاب "زاد المعاد" لابن القيم، ومؤلفات الداعية محمد أحمد الراشد، وكثير من كتب الشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي، و"فقه الدعوة ملامح وآفاق" من سلسلة كتاب الأمة، و"فقه الدعوة إلى الله" للإمام عبد الحليم محمود، و"فقه الدعوة" للأستاذ مصطفى مشهور في مجلدين، و"فقه الدعوة إلى الله" و"فقه النصح والإرشاد" لعبد الرحمن حبنكة، وللدكتور موسى إبراهيم الإبراهيم: "تأمّلات تربويّة في فقه الدعوة الإسلاميّة"، و"الفقه الحركي في العمل الإسلامي المعاصر"، و"مفاهيم تربويّة في فقه الدعوة الإسلاميّة"، وغير ذلك.
------------
الحواشي:
(1) راجع في ظلال القرآن لسيد قطب في تفسير الآية: 49 من سورة هود: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49).

(2) أفاض شيخنا الدكتور يوسف القرضاوي في كيفية تعامل الداعية والفقيه مع السنة النبوية في كتابه القيم ثقافة الداعية.

(3) رواه مسلم: كتاب الزهد والرقائق برقم: 2957.

(4) رواه أحمد في مسند عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.

(5) رواه البخاري: كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله.

(6) الحديثان رواهما مسلم.

(7) رواه أحمد في مسنده برقم: 21185.
-------------
* باحث شرعي بالمركز العالمي للوسطية- الكويت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق