الاثنين، 29 مارس 2010

النبى القدوة فى بيته صلى الله عليه و سلم


أولا ..الرسول القدوة كأب
صفـة الأبوة لدى النبي صلى الله عليه و سلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم ذروة في كل وحدة من وحدات الحياة وفي كل أمر فيها. وعندما يريد الناس البحث عنه يجب ألا يبحثوا عنه في مستواهم ولا في مستوى عظماء عصره، بل عليهم أن يبحثوا عنه في أعلى الذرى وأن يطيروا بخيالهم فوق هذه الذرى لكي لا يخطئوا فيقصروا في فهم قدره الحقيقي. أجل، من أراد البحث عنه، عليه أن يبحث عنه في أُفقه، وليس بين كل مستويات الأشخاص العاديين من أمثالنا، ذلك لأن الله تعالى وهبه قابليات كبيرة في كل ساحة.
عاش فخر الإنسانية مثل شمس ساطعة ثم غرب، فلم تر الإنسانية مثيلا له من قبل، ولن تراه من بعد، وكما لم تر الإنسانية هذا، كذلك لم يره معاصروه والقريبون منه، وربما لم يدرك الكثيرون آنذاك غروبه إلا بالوحشة التي أحسوها في قلوبهم بعده، كمثل الزهرة المتعلقة حياتها بضوء الشمس لا تحس بغروب الشمس إلا بعد إحساسها بالذبول جراء انقطاع ضوء الشمس عنها.. أحسوا بالوحشة ولكن الأمر كان قد فات وانقضى.. ومن الطبيعي أن عدد من يفهمونه ويعرفونه في أمته يزداد يوما بعد يوم، وعلى الرغم من مرور 14 قرنا فلا نزال نقول “أُمُّنا” لخديجة، ولعائشة ولأم سلمة ولحفصة رضي الله عنهن جميعا، ونحس بلذة وببهجة من هذا القول أكثر من لذتنا عندما نخاطب أمهاتنا، ولا شك أن الشعور بهذه اللذة وبهذه البهجة كان أعمق في ذلك العهد وأكثر حرارة وإخلاصا، وذلك من أجله صلى الله عليه و سلم، لذا.. نرى أبا بكر رضي الله عنه يخاطب ابنته عائشة قائلا لها: "يا أمي" لأن الآية الكريمة تقول {وأزواجه أمهاتهم} (الأحزاب: 6). نعم، لقد كان أبو بكر رضي الله عنه يقول لابنته التي رباها في حجره "يا أمي".
كل هذا الحب وهذا التقدير الذي أحاط بهن لم يكن يجدي في إزالة حزنهن وألمهن من فراقه صلى الله عليه و سلم، ولم تستطع الأيام الحلوة التي أتت بعد أيام الفتوحات أن تقلل هذا الحزن العميق في قلوبهن.. بل استمر هذا الحزن حتى غروب حياة كل واحدة منهن، وكما كان زوجا مثاليًّا لزوجاته، فقد كان أبا مثاليًّا أيضا.. وعلى المقياس نفسه كان جدَّ مثاليٍّ لا يوجد له نظير أو شبيه.
كان يعامل أولاده وأحفاده بحنان كبير، ولم يكن ينسى وهو يعطي كل هذا الحنان أن يوجه أنظارهم إلى الآخرة وإلى معالي الأمور، كان يضمهم لصدره ويبتسم لهم ويداعبهم، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن يغض طرفه عن أي إهمال لهم حول شئون الآخرة، وكان في هذا الأمر واضحا جدا وصريحا جدا، ووقورا ومهيبا وجادًّا فيما يتعلق بصيانة العلاقة بينه وبين خالقه.
فمن جهة كان يعطي الحرية لهم ويرشدهم إلى طرق العيش بشكل يليق بالإنسان، ومن جهة أخرى كان لا يسمح بانفلات الانضباط أو سلوك طريق اللامبالاة. ويبذل كل جهوده وبكل دقة لمنع إصابتهم بأي تعفن خلقي، ويهيئهم لعوالم علوية وللحياة الأخروية، وفي أثناء هذه التربية كان الرسول صلى الله عليه و سلم يحذر من الوقوع في الإفراط أو التفريط، بل يختار الطريق الوسط ويمثل الصراط المستقيم، وكان هذا بُعدا آخر من أبعاد فطنته.
1. شـفـقـتـه على أولاده وأحـفاده
روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه الذي خدم رسول الله صلى الله عليه و سلم عشر سنين أنه قال: "ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه و سلم".[1] أجل، كان يتصرف بشفقة ورحمة وعن عاطفة حقيقية نابعة من صميم قلبه بحيث لم يكن بوسع أحد أن يكون مثيلا له لا في مجال رئاسته للعائلة ولا في مجال أبوته.
ولو كان هذا كلاما صادرا منا فقط لكان من الممكن بقاء أهميته محدودة، إلا أن الملايين من أمته التي تعمقت الرحمة والشفقة في قلبها إلى درجة التورع عن إيذاء نملة.. هذه الملايين كلها تعلن وتعترف بأنه لم يكن هناك مثيل له صلى الله عليه و سلم في احتضانه الوجود كله بشفقته ورحمته، صحيح أنه خلق بشرا من البشر، ولكن الله تعالى ألهمه ووضع في قلبه عاطفة الاهتمام بالوجود كله لكي يوطد علاقته مع الناس أجمعين، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم مشحونا بعاطفة قوية وباهتمام كبير تجاه أفراد بيته وتجاه الناس الآخرين وكل شيء في الكون.   
وتوفي أولاده الذكور في حياته،[2] وقد ولدت له أمنا مارية رضي الله عنها ولدا ذكرا فتوفي كذلك، وكان هذا آخرهم، وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخصص لهم  وقتا من بين مشاغله الكثيرة والمهمة فيذهب إلى مرضعة ابنه ويحتضن ابنه ويقبله ويداعبه ويشمه ويظهر له علامات حبه له،[3] وعندما توفي ابنه احتضنه أيضا وقد ملأت الدموع عينيه، ثم قال وهو ينظر إلى المستغربين لحزنه: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.» وفي حديث آخر: «إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا» وأشار إلى لسانه.[4]
لقد كان –صلى الله عليه وسلم- أرحم الناس وأكثرهم شفقة وحنانا، فكان الحسن والحسين رضي الله عنهما يركبان على ظهره ويطوف بهما أرجاء المنزل أو في المسجد، هل تتصورون شخصا في هذا المستوى يأخذ حفيده على ظهره ويكون لهما فرسا أمام الآخرين..؟ أما هو فكان يفعل هذا وكأنه كان يريد إظهار وإعلام الموقع الممتاز الذي سيناله كل من الحسن والحسين رضي الله عنه، وفي أحد الأيام وبينما كان الحسن والحسين رضي الله عنه على ظهره دخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لهما: نِعْمَ الفرس تحتكما، فقال الرسول صلى الله عليه و سلم: «نعم الفارسان هما.»[5]
يجوز أن الحسن والحسين رضي الله عنهما فهما ما قاله أو لم يفهما؛ ولكنه كان يمدحهما هكذا، وفي إحدى المرات عندما قال أحدهم للحسن رضي الله عنه وهو على عاتق النبي صلى الله عليه و سلم: يا غلام! نعم المركب ركبت. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «ونعم الراكب هو.»[6] وعن جابر قال: دخلت على النبي صلى الله عليه و سلم وهو يمشي على أربعة وعلى ظهره الحسن والحسين رضي الله عنهما وهو يقول: «نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما.»[7]
ولا شك أن لجميع أهل البيت ولجميع الأولياء نصيب من هذا الاهتمام، لقد كانت هذه هي منزلة أولاده وأحفاده عنده، فدخل حبه إلى قلوبهم وأصبح مظهرًا وموضعًا لحب يتجاوز علاقة الأبناء والأحفاد.
2. التوازن الجم في التربية:
وكما كان صلى الله عليه و سلم في جميع الأمور وسطا، فقد سلك رسول الله صلى الله عليه و سلم الطريق الوسط في موضوع تربية الأطفال، فقد كان يحب أولاده وأحفاده حبًّا جمًّا، ويُشعِر هذا الحب لهم، ولكنه لم يكن يسمح بأي استخدام سيء لهذا الحب، هذا علما بأنه لم يكن يوجد بين أولاده وأحفاده من يحاول هذا أصلا، غير أنه عندما يقومون بتصرف خاطئ من دون عمد نرى مِن تصرّف رسول الله صلى الله عليه و سلم وكأن ضبابا من الوقار لف هذا الحب العميق.
وبسلوك ملأه الدفء يسعى لمنعهم من التجول في مناطق الشبهات؛ فمثلا مد الحسن رضي الله عنه -وهو طفل صغير- يده إلى تمر صدقة، فأسرع رسول الله صلى الله عليه و سلم وانتزع تلك الثمرة من فيه قائلا له: «أما علمتَ أن الصدقة لا تحل لآل محمد.»[8] فقد رباهم منذ الصغر على التوقي من الحرام وإبداء منتهى الحساسية في هذا الموضوع، وهذا من أفضل الأمثلة على إقامة التوازن التربوي منذ الصغر، وفي كل مرة كان يدخل فيها المدينة كنت تراه وقد ركب معه على مركبه بعض الصبيان ملتفين حوله،[9] فلم يقصر رسول الله صلى الله عليه و سلم حبه على أولاده وعلى أحفاده فحسب، بل على أولاد وصبيان جيرانه وغير جيرانه أيضا.
لم يكن أولاده الذكور وأحفاده هم الداخلين فقط ضمن دائرة حبه وحنانه، فقد كان يحب حفيدته أُمامة مثلما يحب حفيده الحسن أو الحسين رضي الله عنه فكثيرا ما شوهد وهو يخرج من البيت وعلى كتفه أُمامة، وكان يحملها أحيانا على ظهره وهو في صلاة النافلة فإذا ركع وضعها على الأرض وإذا قام رفعها،[10] كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يظهر حبه لأُمامة في مجتمع كان الناس فيه حتى عهد قريب يئدون البنات، لذا.. كان هذا التصرف منه تصرفا جديدا غير مسبوق من قبل أحد آنذاك.
3. حـبـه وحنانه تجاه فاطمة رضي الله عنها
ليس في الإسلام تفاضل بين الذكر والأنثى، وهذا هو ما أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، ففاطمة هذه كانت ابنته وأم أهل البيت حتى يوم القيامة وهي والدتنا، كانت فاطمة عندما تقبل على رسول الله صلى الله عليه و سلم وتزوره يقوم لها ويأخذ بيدها ويجلسها بجانبه ويسأل عنها وعن أحوالها ويظهر حبه لها، وعندما تقوم يقوم معها ويودعها بكل لطف.[11]
رغب علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرة في الزواج من بنت أبي جهل، صحيح أن هذه المرأة كانت قد دخلت الإسلام مثل أخيها عكرمة فالتحقت بقافلة النور؛ ولكن هذا الزواج كان من الممكن أن يضايق فاطمة رضي الله عنها، ويجوز أن عليا رضي الله عنه لم يخطر على باله قط أن فاطمة يمكن أن تستاء من مثل هذا الزواج، ولكن عندما أتت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبره بالأمر وتظهر حزنها حتى همه أمرها صعد المنبر وقال: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليَّ بن أبي طالب، فلا آذن لهم ثم لا آذن لهم ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها.» .[12]وكان علي رضي الله عنه من بين المستمعين فتراجع عن نيته تلك وعاد إلى فاطمة رضي الله عنها.[13]
ولا شك أن عليا رضي الله عنه كان يعز بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم معزة كبيرة، وكانت فاطمة رضي الله عنها تعرف هذا جيدا لذا، كانت تحبه أكثر من نفسها، والحقيقة أن هذه المرأة الرقيقة كانت تبدو وكأن وظيفتها في الحياة هي أن تكون بذرة لكل الأولياء والأصفياء، فكان جل اهتمامها منصبا على والدها وعلى دعوته، وعندما أخبرها والدها -وهو في أواخر أيام حياته- بأنه سيتوفى سبحت في بحر من الدموع، ولكن عندما أخبرها بأنها ستكون أول من يلتحق به غمرها الفرح والحبور.[14]
أجل، لقد كان والدها يحبها كثيرا وكانت بدورها تبادله الحب العميق. ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عندما يحبها يعرف كيف يحفظ التوازن ويعدُّها لكي يوصلها إلى العالم الذي يجب أن ترتفع الأرواح وتسمو إليه، ذلك لأن الرفقة الأبدية لا تكون إلا هناك، ولم يترافق رسول الله صلى الله عليه و سلم وابنته في الحياة سوى خمسة وعشرين عاما، إذ توفيت فاطمة رضي الله عنها بعد ستة أشهر فقط من وفاة والدها، وكان عمرها آنذاك خمسة وعشرين عاما فقط.[15]
4.  تـهـيـئـة أولاده للحياة الأبدية
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يطلب الحياة الأبدية، أي يطلب ما تطلبه الفطرة التي أودعها الله في الناس جميعا... أجل، إن الإنسان للخلود، وليس في الإمكان إشباع هذا الإنسان إلا بالحياة الخالدة، وصاحب هذه الحياة الخالدة لا يطلب شيئا غيرها، وسواء أشعر بذلك أم لم يشعر فإنه لا يطلب غيرها ولا يرغب في سواها، ومهما أعطيت هذا الإنسان فلن تستطيع إشباعه إلا عندما تعطيه الحياة الخالدة... ذلك لأن للإنسان آمالا لا نهاية لها ورغبات لا تحد ولا تحصى، لذا فلن تستطيع إشباع هذا الإنسان مهما أعطيته، وهذا هو السبب في أن أساس رسالات جميع الأنبياء والمرسلين قائم على هذا النظام ذي البعد الأخروي، وعلى هذا الاعتبار فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم بينما كان يحمل لهم باقات السكينة والطمأنينة فإنه لم يكن ليهمل أبدا تهيئتهم للسعادة الأبدية والطمأنينة الأبدية، ويمكن رؤية هذا بكل وضوح في الحادثة التالية:
جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي عنقها سلسلة من ذهب فقال لها: «يا فاطمة! أيغُرُّكِ أن يقول الناس ابنة رسول الله وفي يدها سلسلة من نار.» ثم خرج ولم يقعد، أجل.. فمن جهة كان يعزها، ومن جهة أخرى كان يعدها للحياة الأخروية الخالدة ويوجهها نحو الله وتكملة الحادثة هي: فأرسلت فاطمة بالسلسلة إلى السوق فباعتها واشترت بثمنها غلاما فأعتقته، فحُدِّث بذلك فقال: «الحمد لله الذي أنجى فاطمة من النار.»[16]
أجل.. ليس من السهل أبدا أن تكون أما للأولياء وللأصفياء وللأبرار وللمقربين، لذا.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر حساسية في هذا الخصوص تجاه بيته وأكثر حزما.
فبتصرفه هذا كان -بجانب رأفته بهم وحنانه عليهم- يريد أن يوجه أنظارهم إلى عالم الآخرة، ويسد أمامهم جميع أبواب ونوافذ الشر أو الإثم أو السوء مهما صغر؛ لكي يقصروا همهم على الآخرة ولسان حاله يقول لهم: يجب أن يكون الله غايتكم، إذ سيظهر من أمته من يقول بقول الشاعر:
هذه الجنة التي يذكرونها
قصور عدة.. وبضعة حوريات
أعطها لمن يريدونها
أما أنا فأنت مُنايَ.. أنت
ويقضون أعمارهم كلها تحت ألوان وفي ظلال هذه الحياة الأخروية. لذا، كان الرسول صلى الله عليه و سلم يبعد كل من يحبه -نتيجة طبيعية لهذا الحب- من قاذورات الدنيا ويطهرهم منها، ويحوّل نظرهم واهتمامهم إلى العوالم العلوية ويهيئهم لرفقته هناك «لأن المرء مع من أحب.»[17]
فإذا كنت تحب محمدا صلى الله عليه و سلم فستسلك طريقه، وإذا سلكت طريقه كنت معه في الآخرة، وهكذا فالرسول صلى الله عليه و سلم بجانب حبه لهم كان يهيئهم لرفقته هناك، أجل.. هناك حب، وهناك رأفة ولكن لا محل لأي تراخ في أي أمر من أمور الآخرة... وهذا هو الصراط المستقيم... الصراط الوسط، أفضل وأعدل طريق... طريق على رأسه رسول الله صلى الله عليه و سلم.
وجانب آخر من جوانب نظام تربيته يعرضه علينا الإمام البخاري ومسلم رضي الله عنه وذلك رواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها شكت ما تلقى من أثر الرحى فأتى النبيَّ صلى الله عليه و سلم سَبْيٌ فانطلقت فلم تجده، فوجدت عائشةَ فأخبرتها فلما جاء النبي صلى الله عليه و سلم أخبرته عائشة بمجيئ فاطمة فجاء النبي صلى الله عليه و سلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبتُ لأقوم فقال: «على مكانكما» فقعد بيننا حتى وجدتُ برد قدميه على صدري وقال: «ألا أُعلِّمكما خيرا مما سألتماني: إذا أخذتما مضاجعكما تُكَبِّرا أربعا وثلاثين وتُسَبِّحا ثلاثا وثلاثين وتحمدا ثلاثا وثلاثين فهو خير لكما من خادم.»[18]
أي أنني أوجه نظركِ إلى العالم الأخروي، فلكي تصلي وتكوني معي في ذلك العالم أمامك طريقان: الأول هو عدم التقصير في أداء وظيفة العبودية تجاه ربك، والثاني القيام بإيفاء وظيفتك تجاه زوجك، فلو قام الخادم بإيفاء بعض الخدمات لزوجك من الخدمات التي كان من المفروض عليك أداؤها فذلك يعني أن هناك نقصا ما عندك، علما بأن عليك أن تكوني ذات جناحين، لذا.. عليك أن تُفَتشي عما يجعل الإنسان عبدا كاملا لله، وكيف يكون إنسانا كاملا يؤدي كل وظائفه دون قصور.
كوني أولا أمة [19] كاملة لله وأدي كل وظائف العبودية تجاهه، ثم كوني إنسانة كاملة بإيفائك جميع وظائفك تجاه زوجك عليّ الذي يحمل في صلبه كل المقربين من أهل الله حتى يوم القيامة.. اعملي هذا لكي تكوني في الجنة التي هي مكان كل الأخيار.
وفي الحقيقة فإن الله تعالى فعل الشيء نفسه بالنسبة لرسول صلى الله عليه و سلم ورباه على هذا النحو، إذ مات والده قبل أن يأتي -صلى الله عليه و سلم- إلى الدنيا، وعندما فتح بصره على العالم لم يجد أبا يستند إليه ويستمد المعونة منه، وعندما بلغ السادسة من عمره فقد السند الآخر له، وفتح أمامه منذ بداية حياته الطرق المؤدية إلى نور التوحيد وإلى سر الأحدية.
صحيح أن هناك فترة حماية عبد المطلب له، إلا أن هذه لم تكن سوى ستار العزة والعظمة الإلهية [20] من جهة وشرف للحامي، ولكن هذه الحماية لم تكن تعني من ناحية الأسباب شيئا يذكر، لأن الحماية الظاهرية لأبي طالب -فيما بعد- لم تكن تتجاوز حماية الشخص لابن أخيه والوصاية عليه [21] هكذا تعامل الله تعالى معه، إذ سحب جميع الأسباب لكي يوجهه إليه وحده ولكي يظهر عنده سر الآية الكريمة {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} (الممتحنة: 4)، فعليه أن يثق بالله ويعتمد عليه.
كانت فاطمة رضي الله عنها ابنته، لذا كان عليه أن ينقل لابنته التربية التي تلقاها من الحق تعالى وأن يوجه نظرها إلى الله وحده وإلى الحياة الأخروية.
5.  الـجـو العام للتربية في بيته الـكريم
كان الطابع العام الذي يسري في جو بيته الكريم هو التقوى والخشية، فهذا الجو كان يسري في كل حركة وسكنة فيه، فمن استطاع مشاهدة نظرات رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى فيها غبطة الوصول إلى الجنة وخشية الوقوع في النار، ومن رآه في صلاته رآه يرتجف أحيانا إلى الأمام وأحيانا إلى الخلف مهتزا من خشية الله أو متولها بالشوق إليه.. كانت هذه هي المناظر المشاهدة من حياة هذا البيت؛ فمن رآه تذكر الله تعالى، ينقل النسائي الحديث التالي عن مُطَرِّف عن أبيه قال: “أتيت النبي وهو يصلي ولجوفه أَزِيز كأزيز المِرْجَل”، يعني يبكي.[22]
كان –صلى الله عليه وسلم- دائم البكاء في الصلاة متجها بأعماق قلبه إلى الله، وكم من مرة افتقدته أمنا عائشة رضي الله عنها فوجدته وهو ساجد يسبح الله تعالى في خشوع،[23] ومن البديهي أن حاله هذه كانت تؤثّر على أهل بيته تأثيرا إيجابيا وقويا من الناحية التربوية، فقد سرى هذا الخشوع والتقوى والخوف من الله إلى نسائه وأولاده، ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعيش ما يقوله ويقول ما يعيشه، وليس هناك أحدا استطاع أن يؤثر بسلوكه المطابق لفكره مثلما أثر الرسول صلى الله عليه و سلم في بيته، ولو جمع كل علماء النفس وعلماء التربية كل معلوماتهم من جميع النظم التربوية واستخدموها بأجمعها في تعبئة عامة لما استطاعوا أن يقتربوا في تأثيرهم إلى مستوى التأثير الذي أحدثه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بيته.
أجل.. لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعبر بتصرفاته وسلوكه عما يريد أن يبلغه للناس ثم يترجم تصرفاته وسلوكه إلى الناس ويبلغها ويفهمها لهم... يريهم كيف تكون الخشية من الله وكيف تؤدى السجدة بكل خشوع وخضوع، وكيف يكون الركوع، وكيف يكون الجلوس للتحيات، وكيف يبتهل إلى الله في ظلمة الليل، كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعل هذا في بيته وعندما يكون بين أصحابه يرشدهم كيف يتصرفون وكيف يربون أطفالهم وكيف يكونون مرآة للحق وللحقيقة في كل أمر، فتجد أقواله صدى حسنا في بيته وبين أصحابه وتدخل إلى قلوبهم وتتشربها نفوسهم.
لقد كان صلى الله عليه وسلم -قبل كل شيء- أبا وجدا لا نظير ولا مثيل له، وقد يبدو لنا هذا أمرا بسيطا من الناحية الاجتماعية، إلا أنه في الحقيقة من أصعب العقبات التي يجب على الإنسان تخطيها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمام صفوف الأُول من الذين تخطوا هذه العقبات بنجاح، فأصبح أفضل أب وأفضل جد، ثم إنه ربى أولادا وأحفادا جاء من صلبهم معظم رجال السلسلة الذهبية في التأريخ الإسلامي، من الذين كانوا شموسا وأقمارا ونجوما هادية، وهذا الأمر دليل آخر من دلائل نبوته صلى الله عليه و سلم، إذ مهما كان الإنسان ذكيا وعبقريا فليس باستطاعته أن يكون مربيا بهذا المستوى الرفيع

* عن كتاب:  النور الخالد محمد مفخرة الإنسانية -(بتصرف)- الصادر عن دار النيل للطباعة والنشر/ إستانبول – تركيا  
**  من أشهر الدعاة في تركيا وواحد من أبرز المنظِّرين للفكر ‏الدعوي بها، ولد في 27 نيسان عام 1941 في قرية صغيرة تابعة لقضاء (حسن قلعة) المرتبطة بمحافظة أرضروم، وهي قرية كوروجك ونشأ في عائلة متدينة، وكان والده (رامز أفندي) شخصا مشهودا لـه بالعلم والأدب والدين.
[1] مسلم، الفضائل، 63؛ «المسند» للإمام أحمد 3/112
[2]  «البداية والنهاية» لابن كثير 5/328
[3] مسلم، الفضائل، 63؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/161
[4] البخاري، الجنائز، 44، 45؛ مسلم، الفضائل، 62، 63، الجنائز، 12؛ ابن ماجة، الجنائز، 53؛ «المسند» للإمام أحمد 3/193؛ أبو داود، الجنائز، 24
[5]  «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/182
[6]  «كنز العمال» للهندي 13/650
[7]  «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/182
[8] البخاري، الزكاة، 57؛ مسلم، الزكاة، 161؛ «المسند» للإمام أحمد 2/279
[9] انظر: «حياة الصحابة» للكندهلوي 2/688-689
[10] البخاري، الأدب، 18؛ مسلم، المساجد، 41-43
[11] مسلم، فضائل الصحابة، 98؛ البخاري، المناقب، 25؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/203
[12] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 16؛ مسلم، فضائل الصحابة، 93
[13] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 16؛ مسلم، فضائل الصحابة، 93
[14] مسلم، فضائل الصحابة، 98، 99؛ البخاري، المناقب، 25
[15] البخاري، فرض الخمس، 1؛ مسلم، الجهاد، 52؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/211؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 8/29؛ «الإصابة» لابن حجر 4/379
[16] النسائي، الزينة، 39؛ «المسند» للإمام أحمد 5/278 ويرجى مراجعة فتوى: الذهب بين النساء والرجال
[17] البخاري، الأدب، 96؛ مسلم، البر، 165
[18] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 9؛ مسلم، الذكر، 80، 81؛ أبو داود، الأدب، 100
[19] أمة: عبدة. (المترجم)
[20] يريد المؤلف أن يقول إن قدرة الله تعالى لا تظهر ظهورا واضحا في الحوادث، بل يجعل الله بينها وبين هذه الحوادث ستارا، وهو ستار الأسباب. (المترجم)
[21] انظر: «السيرة النبوية» لابن هشام 1/262
[22] النسائي، السهو، 18؛ أبو داود، الصلاة، 107؛ «المسند» للإمام أحمد 4/25-26
[23] مسلم، الصلاة، 221؛ النسائي، عِشْرَة النساء، 4

المسجد بيت كل تقي


المسجد بيت كل تقي
بقلم: محمد الشحات
إن المساجد قلعة للإيمان وحصن للفضيلة، ومنار للهداية؛ فهي المدرسة التربوية الكبرى التي تتربى فيها الأمة، كبيرها وصغيرها، وهي الحصن الذي لا يستطيع عدو أن يخترقه، وهي ليست أديرة للرهبنة، ولا زاوية للمتعطلين، ولا تكيّة للدراويش. 
إنها أُسست لتكون مهدًا للانطلاقة الكبرى التي شهدها التاريخ، فلم يعرف في ديوان أي حضارة ولا سجل أي ثقافة معْلم أثر في مسار الإنسانية استنقذها من وَهْدَتها كمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان للصحابة رضوان الله عليهم مقرًّا لاجتماعهم، ومركزًا لمؤتمراتهم، ومحلاًّ لتشاورهم وتناصحهم، أقدامهم فيه متراصة، وأكتافهم متزاحمة، وجباههم جميعًا على الأرض ساجدة وخاضعة، فيه تُحل مشاكلهم وتقضي بتآزرهم حوائجهم، فيه يتآلفون، ويتعارفون، وعلى الخير يتعاونون، إنه المعهد والمدرسة والجامعة التي تخرّج فيها العلماء والدعاة والقادة الذين هم على أيديهم- وبفضل من الله- أشرق على الأرض نور هذا الدين مشارق ومغارب. 
إنها بيوت الله في الأرض، المساجد، التي لا يتعلق بها قلب مخلص إلا كان علامةً على تقواه، ولا يلازمها عبد صالح إلا رفع الله شأنه وطهَّر قلبه وغلب أعداءه. 
من مواضع السجود فيها خرج العابدون، ومن مدارسها نبغ العلماء، ومن جوانبها خرجت ثورات الأمة على كل ظالم جبار، قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)﴾ (النور). 
إنهم رجال.. والرجال يختلفون عن الذكور، فليس كل ذكر رجل، إنما الرجولة مقام لا يليق إلا بأصحاب الصفات الراقية الإيمانية العالية، ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37)﴾ (النور).
 وقد جاء وصف الرجال في أربعة مواطن مهمة من القرآن الكريم:
موطن الوحي: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ (الأنبياء: من الآية 7). 
موطن الجهاد والدعوة: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ (الأحزاب: من الآية 23). 
موطن العبادة: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ (النور). 
موطن الطهارة والعبادة: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ (التوبة: من الآية 108).
 فالرجال تراهم في مقام العبادة في المحاريب؛ حيث الصلاة والذكر والتسبيح والدعاء، وفي مقام الجهاد مع أعداء الله، وفي مقام الدعوة إلى الله لإبلاغ الحق إلى الخلق، وهذه أيضًا صفة الرسل الكرام. 
بيوت الأتقياء...
- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسجد بيت كل تقي، وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة" (رواه الطبراني وصححه الألباني في الترغيب والترهيب). 
وعن سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسجد بيت كل مؤمن" (صحيح الجامع). 
 وفي هذا كناية عن كون العبد دائم التردد عليه محبًّا للجلوس فيه معلّق القلب به، فإذا بالمسجد بعد ذلك قرة عينه وشفاء صدره وأنس فؤاده. 
* نعم.. المسجد بيت كل تقي، فهو مهبط الرحمة، ومحط نزول الملائكة، الذين يتوالى نزولهم على أهل الإيمان في خير البقاع، وزائر المسجد هو ضيف الله، وحق على المزور أن يكرم زائره، ما أن يدخل بيته حتى يوكل به ملك يقول: اللهم اغفر له.. اللهم ارحمه ما دام في مجلسه الذي صلى فيه حتى يخرج من المسجد، كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: "فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون اللهم ارحمه.. اللهم اغفر له.. اللهم تب عليه؛ ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه". 
واستغفار الملائكة ودعاؤهم أرجى للقبول؛ لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فلو أراد الإنسان أن يسأل عالمًا وليًا تقيًّا صالحًا ليستغفر له، ويدعو له كم يكلفه؟! بينما هذه الملائكة سخَّرها الله لبني آدم يدعون ويستغفرون، أليست هذه نعم وعطايا تستوجب الشكر عليها لله رب العالمين؟!!
 * وإذا دخل المسلم المسجد من باب واحد، فمن السنة أن يدعو دعاءً عجيبًا وهو: "بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك"، هو دخل من باب واحد، ولكنه سأل الله أن يفتح له أبوابًا كثيرةً، وعند الخروج من المسجد يقول: "بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك"، فهو بين رحمة الله، وفضله.
 بل تأمل هذا الفضل.. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من راح إلى مسجد الجماعة، فخطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب له حسنة، ذاهبًا وراجعًا" (رواه أحمد). 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً كلما غدا أو راح" (رواه مسلم)؛ فأي مكرمة تلك المكرمة؟ وأي فضيلة تلك الفضيلة؟ فالخطى إلى بيوت الله ليست فقط خطى إلى مراكز تربوية نورانية، بل هي تشفيف للروح، وتنقية للذنب قبل الوصول إليها، وتطييب للخطى أثناء العزم؛ فتدبر!!
 - ولعل من الآثار الحميدة التي يتركها ابن آدم، وتتشرف بها سجلاته؛ تلك الخطوات التي يخطوها إلى المسجد، يرجو بها ثواب الله، ويخشى عقابه، وهذه من أجلِّ الآثار التي يخلفها المرء وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم آثارًا، وذكر بأنها تكتب في كتاب محفوظ، كما في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حين قال: "أراد بنو سَلِمَة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، قال: والبقاع خالية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني سَلِمَة ديارَكم تُكتب آثارُكم"، فقالوا: "ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا"، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلزموا ديارهم، وبيَّن أن هذه الخطوات إلى المسجد هي آثار تُكتب، وحسنات تُحفظ، وخير يجده صاحبه يوم القيامة.
 - وكيف لا يكون ذلك؟! أو ليست المساجد خير البقاع!!- روى أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والحاكم في المستدرك، وصححه عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي البقاع خير؟ فقال: "لا أدري" فقال: أي البقاع شر؟ فقال: "لا أدري" فقال: سل ربك، قال: فلما نزل جبرائيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني سئلت أي البقاع خير؟ وأي البقاع شر؟ فقلت: لا أدري، فقال جبرائيل: وأنا لا أدري، حتى أسأل ربي، قال: فانتفض جبرائيل انتفاضة كاد أن يصعق منها محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله: يا جبرائيل يسألك محمد أي البقاع خير؟ فقلت: لا أدري، فسألك: أي البقاع شر؟ فقلت: لا أدري، وإن خير البقاع المساجد، وشر البقاع الأسواق". 
إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَادًا
- عَنْ‏‏ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏رَضِيَ الله عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏قَالَ: "‏إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَادًا الْمَلائِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ إِنْ غَابُوا يَفْتَقِدُونَهُمْ وَإِنْ مَرِضُوا عَادُوهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ"، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "جَلِيسُ الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلاثِ خِصَالٍ: أَخٍ مُسْتَفَادٍ أَوْ كَلِمَةٍ مُحْكَمَةٍ أَوْ رَحْمَةٍ مُنْتَظَرَةٍ" (أخرجه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة").  
نعم.. إن للمساجد أوتادًا، كأنها أصول للمساجد؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم، يقول لنا: المساجد لها أوتاد، ولم يقل: إن كل المسلمين هم أوتادها، إذًا البعض من الناس هم الأوتاد، وهم المحبون لبيت الله، والمعلقة قلوبهم به.
 - وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَيُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ جِيرَانِي, أَيْنَ جِيرَانِي?" قَالَ: "فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: رَبَّنَا! وَمَنْ يَنْبَغِيَ أَنْ يُجَاوِرَكَ؟ فَيَقُولُ: أَيْنَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ؟" (أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده.. وصححه الألباني).
 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله تعالى إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم"، وفي رواية لابن خزيمة قال: "ما من رجل كان توطن المساجد، فشغله أمر أو علة، ثم عاد إلى ما كان، إلا يتبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم" رواه ابن حبان. 
والتبشبش: هو الفرح بمجيء الغائب.
- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خصال ست؛ ما من مسلم يموت في واحدة منهن؛ إلا كانت ضامنًا على الله أن يدخله الجنة: رجل خرج مجاهدًا، فإن مات في وجهه؛ كان ضامنًا على الله. ورجل تبع جنازة، فإن مات في وجهه؛ كان ضامنًا على الله. ورجل عاد مريضًا، فإن مات في وجهه؛ كان ضامنًا على الله، ورجل توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لصلاته، فإن مات في وجهه؛ كان ضامنًا على الله. ورجل أتى إمامًا، لا يأتيه إلا ليعزره ويوقره، فإن مات في وجهه ذلك؛ كان ضامنًا على الله. ورجل في بيته؛ لا يغتاب مسلمًا، ولا يجر إليهم سَخَطًا ولا نقمة، فإن مات؛ كان ضامنًا على الله" (صححه الألباني).  
نور المشائين في الظلمات
أما الذين يكابدون آلام الدنيا ومشاقها في سبيل الله؛ فإن ربهم سيخلف عليهم خير إخلاف، وسيبدلهم بخوفهم أمنًا وببذلهم عطاء وبالظلام الذي عانوه نورًا وحُبُورًا.  
- فعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" (رواه أبو داود)، قال الألباني رحمه الله: "والحديث يعني العشاء والصبح لأنها تقام بغلس" يعني بظلمة. 
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليضيء للذين يتخللون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة" (رواه الطبراني وحسنه الألباني في الترغيب)، ولنا أن نلحظ أن جميع تعبيرات الأحاديث تدل على شدة النور وعمومه وسطوعه وتمامه فضلاً من الله ونعمة.
فيا أيها الأخ الحبيب...
* إذا مَنّ الله عليك بساعة في يومك، فاجعلها في بيت ربك، تبث إليه همومك وشكواك، ولك في نبيك صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم  ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو بالمسجد وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"... هذه ليلة من لياليه عند أحب أزواجه إليه فكيف نقضي ليالينا؟!!! 
* وكان الصحابة يفرغون أوقاتهم، ويأتون المسجد لأي غرض نافع ومفيد؟ أخرج مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن معاوية: "أن رسول الله خرج على حلقة من أصحابه فقال: "ما أجلسكم؟" قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا، قال: "آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟" قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: "أما أني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة". 
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى المسجد لشيء فهو حظه" (صحيح الجامع)، وهذا يدل على أن من أتى المسجد لقصد حصول شيء أخروي، أو دنيوي؛ فذلك الشيء حظه ونصيبه؛ لأن لكل امرئ ما نوى، وهذا فيه تنبيه على تصحيح النية في إتيان المساجد.  
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جاء المسجد لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو في منزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره" (صحيح الترغيب والترهيب). 
فماذا أنت فاعل أيها الأخ الحبيب؟ صحِّح نيتك والزم بيت ربك، واجعل للمساجد من وقتك وعمرك نصيبًا مفروضًا، تتحقق لك الهداية والولاية، وتنال الكرامة، والرعاية؛ حيث يكون حبلُك دومًا موصولاً بنور ربك الكبير المتعال.  
وصلى الله وسلم على معلم الناس الخير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

مسئولية الأمة تجاه تهويد القدس.. رؤية شرعية


مسئولية الأمة تجاه تهويد القدس.. رؤية شرعية 
    بقلم: د. عطية فياض
"تهويد القدس" من المصطلحات المتداولة إعلاميًّا وسياسيًّا، وهي تعني خلق واقع في مدينة القدس، يفصلها عن واقعها الحقيقي الشرعي والقانوني، فضلاً عن تاريخها، فهناك حملة مسعورة لتغيير أسماء الأماكن والأشياء، وفرض النظام اليهودي على البلدة بالكامل، وإعلانها عاصمةً موحدةً للكيان الصهيوني الغاصب، واغتصاب أراضيها الموقوفة لجميع المسلمين، وبناء مساكن فوقها للصهاينة الذين يجلبونهم من كل حدب وصوب، وإزالة كل ما له علاقة بإسلامية المدينة وعروبتها، من مقابر وأوقاف وآثار وأحياء وسكان، وما المحاولات المتكررة لاقتحام المسجد الأقصى المبارك من قِبل المتطرفين الصهاينة إلا جزءًا من هذا المسلسل الذي لا يريدون له أن ينتهي إلا بتغيير كامل لمعالم المدينة المقدسة الإسلامية، وسلخها عن تاريخها وهويتها العربية والإسلامية.
وقد يتصوَّر أن هذه الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني هي مجرد إجراءات تعسفية ضد سكان المدينة والمسجد الأقصى الذي يختزل في قبة الصخرة أو في المسجد الذي تعلوه القبة فقط، أو أن هذه الجرائم تخصُّ أهل هذه المدينة، وعليهم أن يتصدَّوا هم لهذه الجرائم ويدافعوا عن مسجدهم، وما على جموع المسلمين إلا التعاطف المعنوي والأخلاقي باستخدام عبارات الشجب والاستنكار، وهذا خطأ فادح وخطيئة عظمى تُرتكب في حق القدس والمسجد الأقصى، بالإضافة إلى ما يرتكبه الكيان الصهيوني كل يوم من جرائم لتهويده وسلخه عن عروبته وإسلامه، وهدم المسجد الأقصى، وإقامة هيكلهم المزعوم.
إن الثابت شرعًا وتاريخًا أن القدس ملكٌ لجميع المسلمين، وأن هذه الأرض المباركة وقفٌ لهم جميعًا، لا يجوز لفئة ولا لحزب أن ينفرد باتخاذ قرار مصيري في شأنها، بعيدًا عن الثوابت والأصول الشرعية، وهذا ما أكدته كثير من الفتاوى الصادرة عن الهيئات العلمية الشرعية الرسمية وغير الرسمية، فمنذ أن وطئت أقدام الغاصب الصهيوني الأرض المباركة، وصدر القرار الظالم من هيئة الأمم عام 1947م، الذي يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين؛ أصدر علماء الأزهر فتوى شرعية، جاء فيها "إنَّ قرار هيئة الأمم المتحدة قرار من هيئة لا تملكه، وهو قرارٌ باطلٌ جائرٌ ليس له نصيبٌ من الحق والعدالة؛ ففلسطين ملك العرب والمسلمين، بذلوا فيها النفوس الغالية والدماء الزكية، وستبقى- إن شاء الله- ملك العرب والمسلمين، رغم تحالف المبطلين، وليس لأحد كائنًا من كان أن ينازعهم فيها أو يمزقها".
وعندما صدر قرار الكونجرس الأمريكي باعتبار القدس عاصمةً للكيان الصهيوني؛ أصدر علماء الأردن فتوى وقَّع عليها كثير من العلماء، ومما جاء فيها: "إنَّ قرار الكونجرس الأمريكي القاضي بضم القدس؛ يشكِّل عدوانًا صارخًا على عقيدة كل مسلم في الأرض، وتعتبر الولايات المتحدة شريكًا في الظلم والعدوان الذي تمارسه "إسرائيل""، وجاء فيها كذلك: "القدس الشريف جزءٌ من عقيدة كل مسلم، يحافظ عليها كما يحافظ على دينه". 
لم تكن هذه الفتاوى وغيرها مجرد بيانات سياسية، تصدر في مناسبات معينة لدغدغة عواطف المسلمين، وتسكين آلامهم؛ بل كانت فتاوى وأحكامًا شرعيةً مستندةً على أسس وأصول، ومن هذه الأصول:
1- إن القدس وسائر أرض فلسطين المباركة قد فتحها المسلمون، وتسلَّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفاتيح بيت المقدس من بطاركة الروم آنئذٍ، وأعطى عمر نائب المسلمين وثيقةً لأهل القدس سُمِّيَت بـ"العهدة العمرية"، أعطاهم فيها الأمان على أنفسهم وأموالهم وطقوسهم وأماكن عباداتهم، وألا يسكن في القدس أحدٌ من اليهود، وبموجب ذلك أصبحت القدس وسائر فلسطين بلدًا إسلاميًّا خالصًا يتعايش فيه الجميع تحت راية الإسلام، وتُحكم بشريعة الإسلام، ويحكمها المسلمون، ويجب إنفاذ أحكام الإسلام عليها، ولا يعدُّ هذا من باب الامتيازات الشرعية للمسلمين على البلاد المفتوحة؛ وإنما من باب الواجبات الشرعية، وهذا أمرٌ متفقٌ عليه بين جميع أهل العلم. 
2- إن القدس وسائر فلسطين بعد أن فتحها الله على المسلمين؛ أصبحت وقفًا عامًّا لجميع المسلمين باتفاق المسلمين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، بعد مشاورته للصحابة في شأن التصرف في أرض السواد بالعراق، بعد فتحها وتداول المسألة فيما بينهم، واستشعار أمير المؤمنين خطورة تقسيم البلاد المفتوحة على المقاتلين؛ كان الرأي كما ورد في كتاب (الخراج) لأبي يوسف: "ولكن رأيتُ أنه لم يبقَ شيءٌ يفتح بعد أرض كسرى، وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم، فقسمت ما غنموا من أموال، وأخرجت الخمس على وجهه، وقد رأيتُ أن أحبس أرضين بعلوجها، وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئًا للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم"، وبهذا الرأي الذي اتفقت عليه الأمة أصبحت تلك البلاد حبسًا أو وقفًا لجميع المسلمين، ينتفع أهلها بها، لكن الملكية ثابتة لكل مسلم، ويستتبع الملكية المسئولية.
 3- إن ما يقع من جرائم في حق القدس والمقدسيين من سلبٍ لأراضيهم وديارهم، وطردٍ للسكان من منازلهم، وقتلِ الأنفس البريئة، وهدم المقدسات وتدنيسها.. كلها جرائم توجب مواجهة الجناة وردهم عن عدوانهم؛ ولئن عجز أهلها عن هذه المواجهة فعند ذلك يجب على جميع المسلمين- الأقرب فالأقرب- أن يقوموا بواجب النصرة والدفاع عن مقدساتهم وبلادهم، وهو واجبٌ متفقٌ عليه شرعًا.
 4- إن المسجد الأقصى الكائن بمدينة القدس ليس مجرد مسجد في بلد مسلم، فتحه المسلمون، ودخل أهله في الإسلام كشأن بقية البلدان والمساجد، وإنما إضافةً لما تقدَّم فإنه يتمتع بجملة من المزايا والسمات والفضائل تجعله في قلب كل مسلم وعقيدته، وأهم هذه السمات ما يلي:
1- إنه المكان الذي أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه من المسجد الحرام، والثابت في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)﴾ (الإسراء)، ومنه عُرِجَ برسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الرحلة، كما في حديث النسائي وأحمد وغيرهما عن عبد الله بن مسعود، قال: لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما عرج به من تحتها، وإليها ينتهي ما أهبط به من فوقها؛ حتى يقبض منها، قال: ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)﴾ (النجم)).
 2- إنه القبلة التي اتجه إليها المسلمون أكثر من ستة عشر شهرًا، قبل التحول إلى المسجد الحرام، وإليه أشار قوله تعالى:﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ (البقرة: من الآية 143).
 3- وصف الله المدينة بالبركة والقداسة في أكثر من موضع؛ وإذ توصف بذلك فيجب أن تُنزَّه عن عبث العابثين وكيد المعتدين.
 4- مشروعية السفر إلى المسجد الأقصى لقصد التعبُّد، كما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا, والمسجد الحرام, والمسجد الأقصى".
 5- إن المسجد الأقصى هو ثاني مسجد بُني في الأرض؛ لما في حديث الصحيحين عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قال: قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قلت: كم كان بينهما؟ قال:
"أربعون سنةً، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصل؛ فإن الفضل فيه".
 6- إتيان المسجد الأقصى يكفِّر الذنوب ويحطُّ الخطايا؛ كما ورد في حديث النسائي وأحمد عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم لما بُني بيت المقدس سأل الله عزَّ وجلَّ خلالاً ثلاثًا؛ سأل الله عزَّ وجلَّ حكمًا يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عزَّ وجلَّ ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عزَّ وجلَّ حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه".
 7- أهل المقدس هم الطائفة المنصورة بإذن الله، كما ورد عند أبي يعلى والطبراني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين إلى أن تقوم الساعة".
8- مدح النبي صلى الله عليه وسلم لمصلاه، وأن ثواب الصلاة فيه مضاعف؛ عن أبي ذر رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أم بيت المقدس؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاةٌ في مسجدي أفضل من أربع صلواتٍ فيه؛ ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض؛ حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعًا"، قال: أو قال: "خير له من الدنيا وما فيها".
 لما تقدم يثبت حق جميع المسلمين في مدينة القدس، ومن هنا تتعاظم جريمة الصهاينة بقدر مساسها بحرمة أكثر من مليار مسلم، وتتعاظم معها المسئولية الملقاة على عاتق كل مسلم على ظهر هذه الأرض، عربيًّا كان أو عجميًّا، من أهل فلسطين أو من غير أهلها، وتبطل بذلك كثير من المقولات المتهافتة التي يروِّج لها الصهاينة وأذنابهم، من اعتبار ما يحدث في القدس شأنًا داخليًّا، ونزع القضية من محيطها الواسع إلى ركن ضيق، يتمكن فيه الصهاينة من الانفراد بالمدينة، والتغلب على أهلها، وفرض ما يريدون عليها وعلى أهلها.
إن هذه المسئولية تستتبع فرض واجبات شرعية تقع على عاتق جميع المسلمين تجاه تهويد القدس، ونزعها من السيادة الإسلامية التي ترقى بالمدينة وجميع أهلها من المسلمين وغير المسلمين إلى السيادة الصهيونية التي تدنِّس المقدسات، وتعيث في الأرض الفساد. 
وهذه جملة من الواجبات نوجزها فيما يلي:
أولاً: التعريف الكامل بمدينة القدس، وبيان مكانتها التاريخية والعقدية في الإسلام، وحقيقة المسجد الأقصى ومساحته الفعلية، بعيدًا عن تزوير الصهاينة وتدليسهم؛ فقد عشنا سنين عددًا نفهم أن المسجد الأقصى هو قبة الصخرة، أو المسجد الذي تعلوه القبة، وتقام فيه الصلوات الخمس، وكان ذلك بسبب الآلة الإعلامية الصهيونية التي قزَّمت المسجد وقلَّصته بهذا الشكل؛ لنكتشف بعد ذلك أن المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد، وهو ما دار عليه السور وفيه الأبواب والساحات الواسعة، والجامع، وقبة الصخرة، والمصلى المرواني، والأروقة، والقباب، والمصاطب، وأسبلة الماء، وغيرها من المعالم، وعلى أسواره المآذن، والمسجد كله غير مسقف سوى بناء قبة الصخرة والمصلى الجامع الذي يُعرف عند العامة بالمسجد الأقصى، وما تبقى فهو في منزلة ساحة المسجد، وهذا ما اتفق عليه العلماء والمؤرخون، وعليه تكون مضاعفة ثواب الصلاة في أي جزء مما دار عليه السور. 
ثانيًا: استعمال المصطلحات والأسماء الصحيحة الشرعية والتاريخية في مواجهة حملات التزوير في المصطلحات والأسماء التي يقوم بها الصهاينة في حق المدينة ومعالمها التاريخية، وهذا واجبٌ يقع على عاتق الإعلاميين والأكاديميين والسياسيين ومن في حكمهم. 
ثالثًا: الفهم الصحيح لما تقوم به سلطات الكيان الصهيوني من جرائم بحق المدينة وأهلها، وأنها ليست مجرد طرد ساكن في بيت من بيته، أو تحرُّش بالمصلين في القدس، وإنما هو مخطط لسرقة المدينة بكاملها من المسلمين، وفرض السيادة الصهيونية عليها، وإزالة كل ما له ارتباط وصلة بتاريخ المدينة وحقوق المسلمين فيها، وهذا واجبُ كل ربِّ أسرة وسائر المؤسسات التعليمية الرسمية والأهلية.
 رابعًا: اعتقاد كل مسلم أنه مسئول شرعًا بصفة شخصية عما يحدثه الكيان الصهيوني في المدينة، وما يرتكبه من جرائم، ولا حقَّ لأحد أيًّا كان، مقدسيًّا أو غير مقدسي، حركةً أو حزبًا أو سلطةً أو هيئةً دوليةً أو إقليميةً؛ في أن يتفاوض أو يتنازل عن أي شبر منها؛ إذ لا تفويض لأحد في أن يحوِّل بلدًا مسلمًا في وزن مدينة القدس إلى مدينة صهيونية. 
خامسًا: الاعتقاد أن السبيل الوحيد لتحرير كافة المقدسات من دنس الصهاينة لا يأتي بالمفاوضات العبثية التي لا تفيد إلا الغاصب الصهيوني، وتمكِّنه من الرقاب والعباد، وإنما يأتي بالجهاد، فهو وحده الكفيل بالتحرير ورد الغصوب؛ لذا يجب تضمين كافة المناهج الدراسية بمستوياتها المختلفة أحكامَ الجهاد بمفهومه المعاصر، وكذا بيان حقيقة الصهاينة واليهود قديمًا وحديثًا.
سادسًا: عدم التعامل مع العدو الصهيوني بأي وجه من وجوه التعامل، ومقاطعة الدول التي تشاركه وتدعمه، فلا يُعقل شرعًا ولا عقلاً أن يقوم العدو الصهيوني بذبح أطفالنا ونسائنا وشيوخنا، ويهدم بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا فوق رءوسنا، ومع ذلك نصدِّر له الطعام والشراب والوقود وتمتلئ المحلات التجارية للدول الإسلامية ببضائعه من ملابس، وأجهزة كهربائية، وأغذية وغيرها.
 سابعًا: تقديم الدعم المادي اللازم للحفاظ على المقدسات، وترميمها لتثبيتها وتحصينها من أعمال الهدم والحفر الذي تقوم به سلطات العدو، وذلك من خلال صناديق الأقصى والجمعيات والمنظمات ذات الصلة. 
 ثامنًا: دعم صمود المرابطين من أهل بيت المقدس الذين يقفون بصدورهم العارية في مواجهة النيران بشتى صور الدعم الممكنة، ماديًّا ومعنويًّا.
 تاسعًا: فضح الجرائم الصهيونية بحق القدس والأقصى، وتوثيقها في جميع المحافل الدولية ذات الصلة، وفي وسائل الإعلام والمحاكم والمنظمات الدولية، والعمل على تذكير الأمة بهذه الجرائم في برامج إعلامية ومناهج مدرسية.
 عاشرًا: الضغط الشعبي من كافة البلاد الإسلامية على المفاوض الفلسطيني والدول العربية الداعمة له بكافة السبل المتاحة والممكنة؛ بعدم جواز التفريط في أي شبر من الأرض المقدسة، وأنها ملك خالص للمسلمين، وأنه ليس من سلطة أي نظام أو حاكم أو زعيم الحق في التنازل، أو منع المهجرين والمطرودين من ديارهم وأرضهم من العودة إليها.
حادي عشر: الدعاء والإلحاح في الدعاء، وتخيُّر أوقات الإجابة في أن يفكَّ الله أسر المسجد الأقصى، وأن يطهِّره من الاحتلال والاغتصاب، اللهم آمين... والله تعالى أعلى وأعلم.
---------
* أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر الشريف.