الاثنين، 29 مارس 2010

المسجد بيت كل تقي


المسجد بيت كل تقي
بقلم: محمد الشحات
إن المساجد قلعة للإيمان وحصن للفضيلة، ومنار للهداية؛ فهي المدرسة التربوية الكبرى التي تتربى فيها الأمة، كبيرها وصغيرها، وهي الحصن الذي لا يستطيع عدو أن يخترقه، وهي ليست أديرة للرهبنة، ولا زاوية للمتعطلين، ولا تكيّة للدراويش. 
إنها أُسست لتكون مهدًا للانطلاقة الكبرى التي شهدها التاريخ، فلم يعرف في ديوان أي حضارة ولا سجل أي ثقافة معْلم أثر في مسار الإنسانية استنقذها من وَهْدَتها كمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان للصحابة رضوان الله عليهم مقرًّا لاجتماعهم، ومركزًا لمؤتمراتهم، ومحلاًّ لتشاورهم وتناصحهم، أقدامهم فيه متراصة، وأكتافهم متزاحمة، وجباههم جميعًا على الأرض ساجدة وخاضعة، فيه تُحل مشاكلهم وتقضي بتآزرهم حوائجهم، فيه يتآلفون، ويتعارفون، وعلى الخير يتعاونون، إنه المعهد والمدرسة والجامعة التي تخرّج فيها العلماء والدعاة والقادة الذين هم على أيديهم- وبفضل من الله- أشرق على الأرض نور هذا الدين مشارق ومغارب. 
إنها بيوت الله في الأرض، المساجد، التي لا يتعلق بها قلب مخلص إلا كان علامةً على تقواه، ولا يلازمها عبد صالح إلا رفع الله شأنه وطهَّر قلبه وغلب أعداءه. 
من مواضع السجود فيها خرج العابدون، ومن مدارسها نبغ العلماء، ومن جوانبها خرجت ثورات الأمة على كل ظالم جبار، قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)﴾ (النور). 
إنهم رجال.. والرجال يختلفون عن الذكور، فليس كل ذكر رجل، إنما الرجولة مقام لا يليق إلا بأصحاب الصفات الراقية الإيمانية العالية، ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37)﴾ (النور).
 وقد جاء وصف الرجال في أربعة مواطن مهمة من القرآن الكريم:
موطن الوحي: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ (الأنبياء: من الآية 7). 
موطن الجهاد والدعوة: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ (الأحزاب: من الآية 23). 
موطن العبادة: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ (النور). 
موطن الطهارة والعبادة: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ (التوبة: من الآية 108).
 فالرجال تراهم في مقام العبادة في المحاريب؛ حيث الصلاة والذكر والتسبيح والدعاء، وفي مقام الجهاد مع أعداء الله، وفي مقام الدعوة إلى الله لإبلاغ الحق إلى الخلق، وهذه أيضًا صفة الرسل الكرام. 
بيوت الأتقياء...
- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسجد بيت كل تقي، وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة" (رواه الطبراني وصححه الألباني في الترغيب والترهيب). 
وعن سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسجد بيت كل مؤمن" (صحيح الجامع). 
 وفي هذا كناية عن كون العبد دائم التردد عليه محبًّا للجلوس فيه معلّق القلب به، فإذا بالمسجد بعد ذلك قرة عينه وشفاء صدره وأنس فؤاده. 
* نعم.. المسجد بيت كل تقي، فهو مهبط الرحمة، ومحط نزول الملائكة، الذين يتوالى نزولهم على أهل الإيمان في خير البقاع، وزائر المسجد هو ضيف الله، وحق على المزور أن يكرم زائره، ما أن يدخل بيته حتى يوكل به ملك يقول: اللهم اغفر له.. اللهم ارحمه ما دام في مجلسه الذي صلى فيه حتى يخرج من المسجد، كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: "فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون اللهم ارحمه.. اللهم اغفر له.. اللهم تب عليه؛ ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه". 
واستغفار الملائكة ودعاؤهم أرجى للقبول؛ لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فلو أراد الإنسان أن يسأل عالمًا وليًا تقيًّا صالحًا ليستغفر له، ويدعو له كم يكلفه؟! بينما هذه الملائكة سخَّرها الله لبني آدم يدعون ويستغفرون، أليست هذه نعم وعطايا تستوجب الشكر عليها لله رب العالمين؟!!
 * وإذا دخل المسلم المسجد من باب واحد، فمن السنة أن يدعو دعاءً عجيبًا وهو: "بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك"، هو دخل من باب واحد، ولكنه سأل الله أن يفتح له أبوابًا كثيرةً، وعند الخروج من المسجد يقول: "بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك"، فهو بين رحمة الله، وفضله.
 بل تأمل هذا الفضل.. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من راح إلى مسجد الجماعة، فخطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب له حسنة، ذاهبًا وراجعًا" (رواه أحمد). 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً كلما غدا أو راح" (رواه مسلم)؛ فأي مكرمة تلك المكرمة؟ وأي فضيلة تلك الفضيلة؟ فالخطى إلى بيوت الله ليست فقط خطى إلى مراكز تربوية نورانية، بل هي تشفيف للروح، وتنقية للذنب قبل الوصول إليها، وتطييب للخطى أثناء العزم؛ فتدبر!!
 - ولعل من الآثار الحميدة التي يتركها ابن آدم، وتتشرف بها سجلاته؛ تلك الخطوات التي يخطوها إلى المسجد، يرجو بها ثواب الله، ويخشى عقابه، وهذه من أجلِّ الآثار التي يخلفها المرء وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم آثارًا، وذكر بأنها تكتب في كتاب محفوظ، كما في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حين قال: "أراد بنو سَلِمَة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، قال: والبقاع خالية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني سَلِمَة ديارَكم تُكتب آثارُكم"، فقالوا: "ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا"، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلزموا ديارهم، وبيَّن أن هذه الخطوات إلى المسجد هي آثار تُكتب، وحسنات تُحفظ، وخير يجده صاحبه يوم القيامة.
 - وكيف لا يكون ذلك؟! أو ليست المساجد خير البقاع!!- روى أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والحاكم في المستدرك، وصححه عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي البقاع خير؟ فقال: "لا أدري" فقال: أي البقاع شر؟ فقال: "لا أدري" فقال: سل ربك، قال: فلما نزل جبرائيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني سئلت أي البقاع خير؟ وأي البقاع شر؟ فقلت: لا أدري، فقال جبرائيل: وأنا لا أدري، حتى أسأل ربي، قال: فانتفض جبرائيل انتفاضة كاد أن يصعق منها محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله: يا جبرائيل يسألك محمد أي البقاع خير؟ فقلت: لا أدري، فسألك: أي البقاع شر؟ فقلت: لا أدري، وإن خير البقاع المساجد، وشر البقاع الأسواق". 
إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَادًا
- عَنْ‏‏ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏رَضِيَ الله عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏قَالَ: "‏إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَادًا الْمَلائِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ إِنْ غَابُوا يَفْتَقِدُونَهُمْ وَإِنْ مَرِضُوا عَادُوهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ"، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "جَلِيسُ الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلاثِ خِصَالٍ: أَخٍ مُسْتَفَادٍ أَوْ كَلِمَةٍ مُحْكَمَةٍ أَوْ رَحْمَةٍ مُنْتَظَرَةٍ" (أخرجه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة").  
نعم.. إن للمساجد أوتادًا، كأنها أصول للمساجد؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم، يقول لنا: المساجد لها أوتاد، ولم يقل: إن كل المسلمين هم أوتادها، إذًا البعض من الناس هم الأوتاد، وهم المحبون لبيت الله، والمعلقة قلوبهم به.
 - وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَيُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ جِيرَانِي, أَيْنَ جِيرَانِي?" قَالَ: "فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: رَبَّنَا! وَمَنْ يَنْبَغِيَ أَنْ يُجَاوِرَكَ؟ فَيَقُولُ: أَيْنَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ؟" (أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده.. وصححه الألباني).
 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله تعالى إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم"، وفي رواية لابن خزيمة قال: "ما من رجل كان توطن المساجد، فشغله أمر أو علة، ثم عاد إلى ما كان، إلا يتبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم" رواه ابن حبان. 
والتبشبش: هو الفرح بمجيء الغائب.
- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خصال ست؛ ما من مسلم يموت في واحدة منهن؛ إلا كانت ضامنًا على الله أن يدخله الجنة: رجل خرج مجاهدًا، فإن مات في وجهه؛ كان ضامنًا على الله. ورجل تبع جنازة، فإن مات في وجهه؛ كان ضامنًا على الله. ورجل عاد مريضًا، فإن مات في وجهه؛ كان ضامنًا على الله، ورجل توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لصلاته، فإن مات في وجهه؛ كان ضامنًا على الله. ورجل أتى إمامًا، لا يأتيه إلا ليعزره ويوقره، فإن مات في وجهه ذلك؛ كان ضامنًا على الله. ورجل في بيته؛ لا يغتاب مسلمًا، ولا يجر إليهم سَخَطًا ولا نقمة، فإن مات؛ كان ضامنًا على الله" (صححه الألباني).  
نور المشائين في الظلمات
أما الذين يكابدون آلام الدنيا ومشاقها في سبيل الله؛ فإن ربهم سيخلف عليهم خير إخلاف، وسيبدلهم بخوفهم أمنًا وببذلهم عطاء وبالظلام الذي عانوه نورًا وحُبُورًا.  
- فعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" (رواه أبو داود)، قال الألباني رحمه الله: "والحديث يعني العشاء والصبح لأنها تقام بغلس" يعني بظلمة. 
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليضيء للذين يتخللون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة" (رواه الطبراني وحسنه الألباني في الترغيب)، ولنا أن نلحظ أن جميع تعبيرات الأحاديث تدل على شدة النور وعمومه وسطوعه وتمامه فضلاً من الله ونعمة.
فيا أيها الأخ الحبيب...
* إذا مَنّ الله عليك بساعة في يومك، فاجعلها في بيت ربك، تبث إليه همومك وشكواك، ولك في نبيك صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم  ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو بالمسجد وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"... هذه ليلة من لياليه عند أحب أزواجه إليه فكيف نقضي ليالينا؟!!! 
* وكان الصحابة يفرغون أوقاتهم، ويأتون المسجد لأي غرض نافع ومفيد؟ أخرج مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن معاوية: "أن رسول الله خرج على حلقة من أصحابه فقال: "ما أجلسكم؟" قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا، قال: "آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟" قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: "أما أني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة". 
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى المسجد لشيء فهو حظه" (صحيح الجامع)، وهذا يدل على أن من أتى المسجد لقصد حصول شيء أخروي، أو دنيوي؛ فذلك الشيء حظه ونصيبه؛ لأن لكل امرئ ما نوى، وهذا فيه تنبيه على تصحيح النية في إتيان المساجد.  
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جاء المسجد لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو في منزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره" (صحيح الترغيب والترهيب). 
فماذا أنت فاعل أيها الأخ الحبيب؟ صحِّح نيتك والزم بيت ربك، واجعل للمساجد من وقتك وعمرك نصيبًا مفروضًا، تتحقق لك الهداية والولاية، وتنال الكرامة، والرعاية؛ حيث يكون حبلُك دومًا موصولاً بنور ربك الكبير المتعال.  
وصلى الله وسلم على معلم الناس الخير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

هناك تعليق واحد: