الأربعاء، 5 مايو 2010

الصلاح والاصلاح في القرآن


الصلاح والاصلاح في القرآن (4)

الإصلاح المنشود (1/2) منقول 
أيها الأحبة الكرام.. الحديثُ عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حديثٌ شيقٌ، لا تَمَلُّه النفوسُ الطيبة، ولا تنبو من ترداده الأسماعُ التي أَلِفَت الخيرَ، فهو رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- هو النورُ الذي أضاء الدنيا بعد إظلام، والهدى الذي جاء الدنيا بعد ضلالٍ، هذا النبي الخاتم- صلى الله عليه وسلم- لو أردتَ أن تُلخصَ رسالتَه بل رسالةَ الأنبياء أجمعين في كلمتين اثنتين لقلتَ: هي رسالة الإصلاح، ولله در القائل:
المصلحون أصابعٌ جمعت يدًا   هي أنت بل أنت اليد البيضاء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى         فالكل في حق الحياة سواء

أولاً: رسالة الإصلاح المحمدية
جاء- صلى الله عليه وسلم- مُصلِحًا لهذه البشرية، مُصلِحًا لدينها ودنياها وآخرتها، وهو الذي يقول- صلى الله عليه وسلم- في دعائه: "اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ".

إنَّ أهمَّ ما يميز الإصلاحَ في رسالة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنها جاءت لإصلاح الدين والدنيا والآخرة، كلُّ المصلحين جاءوا ليصلحوا جهة من هذه الجهات:
من المصلحين مَن جاء ليصلحَ الدين ومسائل العقيدة.

ومن المصلحين مَن جاء ليصلحَ الحياة ومسائل المعاش.

ومن المصلحين مَن جاء ليهتمَّ بالمعاد، وليربطَ الناس بالله، وبيوم لقاء الله ويزهدهم في الدنيا.

لكنَّ رسالة الإصلاح التي جاء بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليست كذلك؛ بل جاء- صلى الله عليه وسلم- ليُصلحَ الدين والدنيا والآخرة، وليقول: إنَّه لا صلاحَ للبشرية إلا بتكامل جوانب الإصلاح.

ثانيًا: إصلاح النبي- صلى الله عليه وسلم- متوافق مع إصلاح الأنبياء من قبله
ليس النبي- صلى الله عليه وسلم- بدعًا في هذا؛ فهذا سيدنا شعيبٌ يقول:﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ (هود: من الآية 88)، وهو بذلك يختصر الرسالة، والكلام- كما يقول علماء اللغة العربية- فيه حصر وقَصْر؛ أي ليس لي من غاية وليس لرسالتي من هدفٍ إلا تحقيقُ الإصلاح، هذا الحصر للرسالة في هذا المفهوم يُبيِّن لك قيمة هذا الإصلاح.

وهذا سيدنا موسى- على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتمَّ السلام- لمَّا أمره ربُّه ودعاه أن يخرج إليه ليتلقى التوراةَ، وأراد أن يجعلَ أخاه هارونَ من بعده على الناس ماذا قال لهارون؟! قال: ﴿وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 142).

كأنه يقول له: أنت ستقوم مقامي، وأنا لي رسالة محددة وهي الإصلاح، فحينما يعهد إليه بالعهد الذي يحمله على عاتقه إلى أن يأتي موسى بالتوراة يُبين له الرسالة المَنُوطَة به، فيقول له: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِين﴾ (الأعراف: من الآية 142)، وهكذا أمر الله تعالى كلَّ الناس، فقال: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف: 56).

وهكذا يُبين شعيب للناس رسالته التي بعثه الله بها: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (الأعراف : 85).. نفس العبارة التي أمر اللهُ بها كلَّ البشرية هي نفسُها التي قالها شعيبٌ لقومه، والتي قالها سائرُ الأنبياء، والتي تختصر رسالات الأنبياء، نزلت للبشرية ومعها منهج واضح مع آدم عليه السلام، وكلما حصل إفسادٌ، أرسل اللهُ مُصلحًا يُقَوِّم العِوَج ويُصْلح الفسادَ، وهكذا توالت الرسل: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ (المؤمنون: من الآية 144)، هؤلاء الرسلُ يأتون كلما حاد الناسُ عن درب الإصلاح وبدأ الفسادُ يُطِلُّ بقرونه، جاء الرسول- صلى الله عليه وسلم- يُصلح هذا الفساد، وهكذا توالت الرسل، حتى جاء خاتمهم محمد- صلى الله عليه وسلم- ليقومَ بهذه الرسالة.. رسالة الإصلاح بين الناس.

ثالثًا: الإصلاح فطرة إنسانية
الإصلاح ليس فقط رسالةً وواجبًا شرعيًا أمر اللهُ به الرسلَ وأتباعَهم؛ بل هو فطرةٌ إنسانيةٌ نُمارسه بصورةٍ طبيعيةٍ في كثير من شئوننا، فلو أن ثوبي هذا الذي ألبسه أصابه شيء فإنني أصلحه، ولا يقبل الناس مني أن أسير به مقطوعًا طالما كان في إمكاني إصلاحُه، ولو أن جدارًا من جدران بيتي أصابه عطَب أو انهدم فالتصرف الطبيعي أن أُصلح هذا الخلل، والناسُ تتعجب ممن يعيش في ظل أجواء فاسدة وبإمكانه أن يصلح؛ لأن هذا عكس الطبيعة البشرية؛ فالطبيعة البشرية جاءت لإعمار الأرض وما معنى الإعمار إلا الإصلاح؟!

الإعمار معناه الأرضُ التي لا تُنبت يجعلها تُنبت فيُحيِيها، والفسادُ الحاصل في العلاقات يُصلحه، فالإصلاحُ فطرةٌ خَلَق الله الناسَ عليها، نمارسه بصورة طبيعية في كثيرٍ من شئوننا مع غفلتنا عن كوننا نمارس نوعًا من الإصلاح.

جاءت الشرائع لتُقوِّيَ هذه الفطرة وتؤكدَها؛ ولذلك تجد في تعاليم الإسلام مسائلَ كثيرةً جدًّا قيل عنها إنها عمليةٌ أخلاقيةٌ أو اجتماعيةٌ، ولكنها لونٌ من ألوان الإصلاح؛ فحينما يُبشر النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَن يجد أذى على الطريق فيعزله عن طريق الناس.. فماذا نسمي هذه العملية؟! أليس إصلاحًا ليسهل حياة الناس؟!

يحكي النبي- صلى الله عليه وسلم- أن رجلاً رأى غصنَ شجرةٍ في طريقٍ من طرق المسلمين فرفعه فغَفَر اللهُ له، وكأنه يُريد أن يُعَوِّد الأمةَ أن تكون أمةً بطبيعتها تُمارس الفطرة الطبيعية "فطرة الإصلاح".

رابعًا: مخالفة الإصلاح مخالفة للفطرة
وفي المقابل نجد أعداء الرسالات في كل وقت يبغونها عِوَجًا، يريدون العيشَ في ظل هذا العِوَج والانحراف، ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ (هود: 19)، يرون أن في أجواء الانحراف والفساد ما يساعدهم على تحقيق رغباتهم، وهذه أيضًا طبيعةٌ في بعض الناس، وهي تُشبه طبائع الجراثيم الضارة التي دائمًا ما تنمو وتتكاثر في ظل أجواء النتن والعفن، فإذا طلعت عليها الشمس بضيائها، ووصلت إليها حرارتُها التي تُحيي الموتى ماتت؛ لذلك هي لا تريد أن تحيا في الضوء أو أن تَظهر في العلن، حتى إن الله- تبارك وتعالى- يُخبرنا أنهم يروِّجون للناس أنهم مصلحون، ففي الآية: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة:12،11).

والعجيب أنَّ هذه النوعية التي خالفت الفطرة وخالفت الطبيعة وخالفت الشريعة.. هذه النوعية ترى أن من أوجب واجباتها محاربة كلِّ دعوات الإصلاح وكلِّ أدوات الإصلاح؛ حيث يَحكي الله- تبارك وتعالى- لنا في سورة النمل عن سيدنا صالح وقومه فيقول: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ* قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ (النمل: 48، 49)، أيْ حلف بعضهم لبعض بالله أن يقتلوه وأهلَه ليلاً وهم في بيات، أي إنَّ مهمةَ هؤلاء القوم الذين يفسدون ولا يصلحون التخلصُ من المصلح؛ لأنَّ بقاءَه من وجهة نظرهم يعني زوال الأجواء التي يستفيدون منها؛ ولهذا بيَّتوا قسَمًا بالله فيما بينهم على أن يقتلوه ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ* وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ* فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ (النمل- 49: 53).

خامسًا: الإفساد في الأرض بزعم الإصلاح
إن أكثر المفسدين يُحرِّضون جماهير الأمة على دعاة الإصلاح:﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ (غافر: من الآية 26)، وحيثيات الحكم الذي قضى به فرعون أنه قال: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ﴾ (غافر: 26)، وإن من نكد الزمان أن يرفعَ راياتِ الإصلاح زعيمُ المفسدين، أو أنْ ترفع راياتِ الفضيلة والعفة قادة البغِي، هذا ما حدث في كثير من فترات الزمان.. فرعون الذي وصفه الله بأنه كان مسرفًا وأنه كان عاليًا في الأرض وبأنه كان من المفسدين هو الذي ينادي الجماهير إلى اتباعه؛ لأنَّ موسى- عليه السلام- من وجهة نظر هذا الفرعون الأثيم يريد أن يُظهر في الأرض الفساد، وهذا هو الذي فعله كلُّ أعداء الأنبياء والرسالات، وهذا الذي يفعله أبو جهل، وهذا الذي يفعله آباء الجهل في كل زمان ومكان، دائمًا يُصوِّرُون دعاة الإصلاح للجماهير على أنهم دعاة إفساد؛ ليحُولوا بين الجماهير وبين سماع دعوة الله، وليحُولوا بين الناس وبين معرفة الخير من الشر.

سادسًا: الإصلاح الحقيقي شرطٌ لعدم التعرض للهلاك وشرط لقبول التوبة
إنَّ نبينا المصطفى- صلى الله عليه وسلم- حين جاء بهذه الرسالة العظيمة اعتبر أن أولى مهام مَن اتبعوه وأول واجباتِ مَنْ آمنوا به أن يحملوا هذه الرسالة؛ لأنه لا سعادةَ للناس في هذه الحياة ما لم يحملوا رسالة الإصلاح ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود: 117)، إذا تخلَّوْا عن هذا الشرط- وهو شرط الإصلاح- فإنهم سيتعرضون للهلاك.. بل إنك تعجب وأنت تقرأ القرآن حينما يدعو القرآن المخطئين إلى التوبة، فيُعلن الحق- جل وعلا- أنه لا يقبل التوبةَ بمجرد إعلانٍ لفظي وإنما يشترط على كل تائب من كل ذنب أن يُحدث إصلاحًا، مثلما مارس الإفساد بالذنب.

اقرأ معي آيات التوبة في القرآن بأكمله، وسترى مصداق ذلك، وهذه بعض الأمثلة: ﴿ وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (سورة العصر)، ما هو التَّواصي بالحق؟! هو القيام بعملية الإصلاح.
حينما يتكلم الله عن المنافقين الذين راجعوا أنفسَهم وصَحَتْ ضمائرُهم، وفكَّروا في العودةِ إلى الطريقِ الواضحِ وإلى الطريقِ السليمِ، بَيَّن جلَّ وعلا أنه لا يقبل هذه التوبة إلا إذا رافقها قيامٌ بالإصلاح، فقال تعالى ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 145- 146).

الذي يكتم العلم، ويحبس الحق، وينطق بالباطل، ثم يذكر خطأه ويريد أن يُصحِّح مساره ويتوب إلى ربه، يقول له: لا أقبل توبتك إلا إذا مارست إصلاحًا كما مارست إفسادًا، يقول جل وعلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)﴾ (البقرة: 159- 160)، فلا يكفي أن يتوبَ وأن يعتذرَ؛ بل يجب- كما سار خطواتٍ في طريق الإفساد بكتم الحق- أن يسير خطوات في طريق الإصلاح بإظهار الحق.

والذين رَمَوْا الناسَ بالسوء واتهموا البُرَآء بالعيب، ولاَكُوا أعراضَ الناس، ثم أرادوا أن يتوبوا وأن يرجعوا وأن يُعَادَ اعتبارهم في المجتمع المسلم يوضح الله أنه لا يقبل منهم التوبة إلا إذا رافقها إصلاح، فيقول جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النور: 4-5).

فمثلما قام بالإفساد عن طريق الإساءة إلى أعراض الناس لا بُدَّ حتى تُقبل منه التوبة أن يرجع فيُصحِّح خطأه ويُصلح فساده، لا بُدَّ أن يُمارس الإصلاح، وهكذا الزَّانِي وهكذا السارق: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المائدة: 39).

بل الكافر الذي ارتدَّ ورجع وارتدَّ ورجع وأراد أن يعود ويستقرَّ على الحق، يقول له الله: مثلما كانت رِدَّتُك إفسادًا في الأرض، فلا يُقْبَل إيمانُك إلا إذا مارستَ مع الإيمان الإصلاح: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ* خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (آل عمران: 86- 89).

قضية واضحة في كل آيات القرآن ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الأنعام: 54).. فإذا وقعتَ في إفساد- أيًّا كان- وأردت أن تتوب لا بُدَّ أن ترجع وأنت في ذهنك أن تُمارس إصلاحًا كما مارست إفسادًا.

سابعًا: الإصلاح عنوان الأمة الأساسي
جاءت الرسالة الخاتمة- رسالة النبي صلى الله عليه وسلم- لتجعل الإصلاح عنوانها الأساسي، والمسلمُ لا يُعَدُّ مسلمًا إلا إذا بدأ بممارسة هذه العملية: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110)، لم يُقدم الأمر بالمعروف لقلة اهتمامٍ بالإيمان؛ ولكن لِيُبيِّنَ أن الخيرية لا تحصل إلا بالحركة نحو الإصلاح، لا معنى لخيرية الأمة لمجرد أنها الأمة الفلانية، لكنَّ خيريتَها نابعةٌ من أنها تحمل مشروعًا إصلاحيًا مستمرًا.. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ (التوبة: من الآية 71)، هذا هو العنوان الأساسي لهذه الرسالة ولمن اتبع صاحبها- صلى الله عليه وسلم- ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللَّهِ على بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (الرعد: من الآية 108).

لكنَّ هذا الإصلاح الذي جاء به الحبيب- صلى الله عليه وسلم- والذي أُمرنا به والذي نُدبنا إليه ودعانا- صلى الله عليه وسلم- للقيام به، لا ينجح إلا إذا توفرت له مقومات وشروط، فما هي هذه المقومات والشروط؟!

رسالة الإسلام ومقومات الإصلاح المنشود (2/2)
يُبشِّر النبي- صلى الله عليه وسلم- الذين يحملون رسالة الإصلاح من بعده، إذ أنه يعلم أنه سيحصل حالة من الإفساد، لكنه يُبشر مَن يَتصدَّى لهذا الإفساد فيصلحه، ويُقَوِّم هذا العوج، يقول: "فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي"، ما هي مقومات الإصلاح الناجح؟

الذي يقول: أنا أحمل مشروعًا إصلاحيًا، ما هي المقومات التي تبرهن على نجاح هذا المشروع وتؤكد صلاحيته؟.

عشر مقومات سنذكرها باختصار مع أدلتها من كتاب الله وسنة رسوله وواقع الأمة وذاكرة التاريخ:

المقوم الأول: الإصلاح لابد أن ينطلق من منطلق إيماني عقدي:

فالإصلاح تحت أي عنوان غير عنوان الإيمان، إصلاحٌ ناقصٌ قاصرٌ منقطعٌ لا يمكنه أن يستمر، إنما الإصلاح الذي ينطلق من منطلقات قرآنية ويرتكز على مرتكزات عقدية، ويرى صاحبُه أنه يعمل ما يعمل لله، وأنه يقوم بما يقوم به لكونه يحمل رسالةً يُحاسَب عليها وسيسأل عنها، هذا هو الإصلاح الناجح، فلا يمكن أن يُتَصَوَّر أن يقوم إصلاحٌ أو يتم إصلاحٌ والنفوسُ فاسدة.

يُشَبِّه أحدُ المصلحين عمليةَ الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وغيره، التي لا تنطلق من منطلق إيماني، ولا تجعل إصلاحَ النفس هو أولَ العناصر التي تعمل عليها، يشبه هذا بصنبور مفتوح في حوض، فيمتلئ الحوض وصاحب الحوض ينزح الماء ويفرغ الحوض، وهكذا يستمر الحال على هذا الوضع طالما أن الصنبور مفتوح، وأَسْلَمُ حَلٍّ لذلك هو إغلاق الصنبور.

فالإفسادُ والإصلاحُ إنما ينبع من النفس، فإذا أصلحتَها ضمنتَ نجاح المشروع، ولكن طالما هي فاسدة، فستتحايل على أي قانون، ويقولون: إن العدل في نفس القاضي وليس في نص القانون؛ لأن القاضي العادل يتحرَّى في القانون مواطن العدل، والقاضي الجائر يكون النص واضحًا أمامه ويلتمس ثغرةً لكي يجور في حكمه، وهذا واضح بين الناس.

أحد السلف كان يُعلِّم مُريده ويقول له: يا بني إذا مررتَ بغنمٍ فَنَبَحَك كلبُها، فماذا تفعل؟ قال: أدفعه وأجاهده ما استطعت، قال: فإذا عاد للنّباح؟ قال: أدفعه ما استطعت. قال: فإذا عاد، قال: أدفعه... قال: يا بُنَيَّ هذا أمرٌ يطول، ألا أَدُلُّك على خير من ذلك؟. قال: نعم. قال: سلْ راعيَ الغنم أن يكفَّ كلبه.

فهي نفس القضية، فالنفس إذا استقامت على منهج الإصلاح فإنها تتحرك وتتبين وستستجيب لأي توجيه، أما إذا كانت النفس فاسدة فالعمل معها بلا فائدة؛ لأنها تتقلب، وهذا ما نراه ويلمسه كل إنسان.

قارن بين الذي جاء إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بكنوز كسرى وهو يلبس المرقعات وليس معه حارس، ويأتي من المدائن إلى المدينة وهو يحمل كل هذا المال، من غير أن يفكر في أن يمد عينه إليه، فضلاً عن أن يمد يده، قارن بين هذا وبين من يؤتمن على الخزائن فتهرب الأموال منها ولا يبقى إلا حديدها، ما الفرق بين الاثنين؟ هل هو القانون؟ لا.. إنما القضية في النفس، فهذه نفس صلحت فعفت.. وهذه نفس فسدت؛ فمن أين تأتيها العفة.. لا يمكن.

قارن بين حاكم يقول: لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها، لِمَ لَمْ تُسَوِّ لها الطريقَ يا عمر، وآخر يقتل الناسَ ويترك الناسَ فيقتل بعضهم بعضًا. ما الفرق؟.. الفرق أن هذه نفس صلحت فخافت فعفت فاستقامت.. وهذه نفسٌ فاسدةٌ لا يصلحها شيء..
 
ولهذا كان اهتمام الإسلام أولاً بإصلاح النفوس وتصحيح العقائد باعتبار الإصلاح العقدي منطلق الإصلاح الناجح.. وأي مشروع إصلاحي يريد أن ينجح لابد أن يبدأ بهذه القضية، قضية إصلاح النفس، ولذلك تجد النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول في البداية: "اللهم أصلح لي ديني"، أول شيء إصلاح الدين فهو الأساس، يبدأ بأن يصلحَ عقائدَ الناس، ويربطَ الناس بالله، ويربط الناس بالآخرة، ويربط الناس بالجنة ويربط الناس بما عند الله، ويقارن لهم بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة، نعم كان  رسول الله- صلى الله عليه وسلم-  في ذاته مجموعة من الأجهزة التعليمية والإعلامية والتربوية، ولذلك  استطاع أن يصوغ إنسانًا حيًا.

ولذلك لما صلح الإنسان، ثم قيل له : لا تشرب الخمر، لم يشرب الخمر، بعد أن كان يتمني أن يموت ويدفن بجوار شجرة كرم أو شجرة عنب من شدة عشقه للخمر، على حد قول بعضهم :

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة             تروي عظامي بعد موتي عروقُها
      ولا تدفنني في الفـلاة فإنني               أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

لكن عندما استقام الناس، قال الله تعالى لمن يشربون الخمر ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾(المائدة من الآية 26)، فقالوا: انتهينا يا ربنا، وبعد أن كان الزنا له دور معلومة ورايات منصوبة، جاءت الشريعة فأصلحت النفوس، وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للشاب: أترضاه لأمك؟ أترضاه لأختك؟ أترضاه.. لكذا... فيرجع الشاب وأبغض شيء إليه الزنا، فصلحت النفوس، ومن بعدها صلحت الأخلاق، واستقام أمر الحياة.

أما طالما بقيت النفوس على فسادها، فلا القانون سيصلح، ولا إصلاح الاقتصاد سيأتي بنتيجة، لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس من الآية 81)، هذا أمر لا يمكن.

أي إصلاح لا ينطلق من منطلق إيماني فإنه ينبعث من مصلحة، وستجد واضع القانون وضع به جزءً ينفعه شخصيًا وينفع به فئةً معيَّنةً، ستجد القائمَ بوضع القانون يترك لنفسه ثغرةً لينفذ منها، ستجد ضعفاء النفوس ومرضى القلوب يعرفون كيف يلتفون على هذا الأمر، وبالتالي يُفشلون كلَّ بَنْدٍ من بنود الإصلاح.

فأول مقومات الإصلاح الناجح: أن يبدأ بإصلاح النفس، وأولي خطوات إصلاح النفس: أن تُطْلَق يدُ الدعاة الأكفاء لتربية الأمة، وليطلوا على الناس من كل المنابر (أجهزة الإعلام والمنابر والمساجد والتعليم.. وغيرها) ليبعثوا برسالة الإصلاح إلى أعماق النفوس، لابد أن يبدأ هذا.. أما طالما استمرت الحيلولة بين دعاة الإصلاح وبين جماهير الأمة؛ فستظل النفوس الفاسدة، وستظل النفوس المشبعة بالظلم تعمل عملها.

            ولا تزال الليالي حبالى                 يَلِدْنَ أُبَيَّ جهل في كل حين

سيخرج أبو جهل وعندما يموت يأتي أبو جهل غيره، وعندما يقبض على فاسد يظهر غيره... وهكذا.

المقوم الثاني: أن يتبنى رسالة الإصلاح الصالحون:

لا يمكن أن يحمل مشروعَ الإصلاح الناجح إلا أصحابُه الصالحون، فإذا تخيلت أنَّ مشروعات الإصلاح يمكن أن يتبناها فلان أو علان ممن لم تصلح نفسه.. فأنت واهم.. لا يمكن هذا، كيف والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾(يونس من الآية81)،لذلك قلت في البداية: إن طبيعة المُفسد أنه يتآمر على الإصلاح، فإذا جعلته هو الراعي على عملية الإصلاح، إذا أقمت لرعاية مشروع الإصلاح شخصًا تاريخُه فاسدٌ؛ فأنت بهذا تضع الأمانة في أيدٍ غيرِ أمينة، وهذا الذي قال عنه النبي-صلى الله عليه وسلم- : "إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة".. حينما يتكلم المفسدون في شئون الأمة ويوجهون الرأي العام فيها، فماذا تتوقع؟.

يقول- صلى الله عليه وسلم- : "إنَّ بين يدي الساعة سنينَ خدَّاعةً يُصَدَّق فيها الكاذبُ، ويُكَذَّب الصادقُ، ويُؤْتَمَن الخائنُ ويُخَوَّن الأمين، وينطق الرُّوَيْبِضَة، قالوا: وما الرُّوَيْبِضَة قال: التافه- أو الفاسق- يتكلم في أمر العامة"

حين يتولي الحديثَ عن الأمة وعن مشروع الأمة التافهُ والفاسق فنحن على موعد مع الساعة، من العجيب أن تفاجأ بأن قضية عظيمة جدًا، من يأتي لمناقشتها على شاشات التلفاز؟.. الفنان فلان أو الأستاذ الذي يعرف الناس سيرته غير الكريمة، هذا منطق معكوس.. وضع القضايا الكبرى في أيدي الأقزام، أو وضع القضايا في أيدي التافهين يعني إسقاطَ المشروع، ويعني إسقاط الأمة معًا.. لا يمكن أن يحمل مشروعَ الإصلاح إلا الصالحون أنفسُهم؛ لأن هؤلاء هم الذين يستطيعون أن يقدروا ما يحملون.. هذا هو المقوم الثاني.

المقوم الثالث: أن  يبدأ صاحب المشروع الإصلاحي بنفسه وبمن حوله:

حينما بدأ النبي- صلى الله عليه وسلم- رسالة الإصلاح، كانت أول عبارة قالها لقريش حينما جمعهم على الصفا أن قال لهم: أرأيتُم لو أخبرتُكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تُغِيرعليكم، أكنتم مصدقيَّ؟، قالوا: نعم ما جرَّبنا عليك كذبًا.. فقدَّم نفسَه قبل أن يقدِّمَ مشروعَه، فلا بُدَّ لحامل المشروع أن تكون حياتُه واضحةً للأمة، وأن يكون أطهرَ من ماء الغَمام، ولابد أن يكون بهذا الطهر والعفة والأخلاق العالية.

أما أن يكون حاملُ المشروع فاسدًا في نفسه، أو في بطانته، وفاسدًا في دينه، فلا نتصور إطلاقًا أن ينجح هذا المشروع الذي يحمله.

لا تحاول أن تصلحَ الناس وأنت فاسد ! كيف تدعو الناس إلى مشروعك وأنت في واقع أمرك وآل بيتك ومن حولك يفسدون في الأرض؟ هذا عبث..؛ لذلك يقول سيدنا شعيب لقومه وهو يدعوهم ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ (هود من الآية88)، فإذا تقدم شخص ليقول: نحن نقوم بعملية إصلاح.. فلا بد أن يظهر بوضوح أمام الناس ويبين هذا الإصلاح، ويُظْهِرَ الإصلاح في نفسه وأهل بيته.

سيدُنا عمرُ- رضي الله عنه- حين كان يريد أن يأمرَ الناس بأمرٍ أو ينهى الناس عن شيء، يذهب أولاً إلى أهل بيته، يقول: (أنا خارجٌ إلى الناس غدًا، وسآمرهم بكذا وكذا، وإني بادئٌ بكم، وأيم الله لو أني رأيتُ أحدًا منكم يفعل ما نهيتُ عنه، لجعلته نكالاً)، يبدأ ببيته، فحين ينظر الناس ويرون هذا، فإنهم يَتَبَنَّوْن هذا الأمرَ؛ لذلك كان الرسلُ يبدؤون دائمًا بأنفسهم.

وسيدُنا عمر بن عبد العزيز تولي الإمارة، فرأي إفسادًا كبيرًا وأراد الإصلاح، فماذا فعل؟.. بدأ بنفسه.. دعا أهله.. فاطمة بنت عبد الملك (زوجته)، كان أبوها وأخوها وجدها وزوجها خلفاء، حازت المجد من جميع أطرافه، خيَّرها بين أن تَرُدَّ ما بيدها إلى بيت المال ليكون ملكًا لعموم المسلمين وتصبر على الحياة الشديدة مع عمر بن عبد العزيز، أو تفارقه- رضي الله عنها-، فرضيتْ بالبقاء معه على شَظَف العيش.. بدأ بنفسه، وذلك حتى إذا نادى الناسَ إلى الإصلاح يكون هو أول من يقوم به، أما أن يُهْدَم البيتُ فأدعو الناسَ إلى إقامة جدرانه ولا أعملُ معهم، وأهدم بيوتا أخرى، فهذا غير منطقي، فالذي يريد أن يقدمَ إصلاحًا حقيقيًا لابد أن يتبين الإصلاحُ فيه وفيمن حوله.

يقولون عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن من أهم جوانب العظمة في سيرته أنَّ حياتَه كانت مكشوفةً للشمس، بمعنى أن ما يحدث في بيت النبوة يعرفه كلُّ الناس، لأنه ليس عنده ما يُعَاب به.

جمع تسعَ نساءٍ في وقت واحد، كل واحدةٍ تتحدث عما يجرى في بيتها.. حياةٌ مكشوفة.. لا يُوجَد أحدٌ من أعدائه (وهم كثر) الذين يلتمسون العيب، وضع يده في حياته- صلى الله عليه وسلم- على عيب، لأن المشروع الذي يحمله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطبقه على نفسه ويبدأ بآل بيته، ولذلك لما فكر بعض نسائه وطلبن منه التوسعة بعد أن فتح الله عليه، وقلن له يا رسول الله: نساء كسرى وقيصر يرفلون في الحرير، ونحن أمهات المؤمنين ونساؤك وترى ما نحن فيه، فلو وسعت علينا؟.. عندئذ آلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وحلف ألا يقربهن شهرًا، ورجع بعد تمام الشهر فقال لهن:"إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتعالينَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا. وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا"، فالذي يحمل مشروع إصلاح ويعلن أنه يُصلح، لابد أن تكون حياتُه مكشوفةً لجماهير الأمة، لابد أن يكون كتابًا مفتوحًا، يعرف الناس ما له وما عليه، وما لأولاده وما عليهم، وما لأقربائه وما عليهم، وهل استفاد أحدٌ من أقربائه من منصبه أم لا.. حملة مشروع الإصلاح يجب أن يكونوا كذلك.

المقوم الرابع: أن يراعي المشروع الإصلاحي طبائعَ الناس وأحوالَ الزمان:

وأن يتدرَّج بالناس التدرجَ المناسب، لا يبطئ البطءَ الذي يفقد الأمل في الإصلاح، ولا يندفع الاندفاع المتهور الذي يبطل هذا المشروع.

فهذا سيدنا عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- وهو يقدم هذا النموذج عندما تولي الخلافة وبايعه الناس، رجع إلى بيته ليقيل، فنام، فدخل عليه ابنه فقال: أتقيل يا أبت؟! أتقيل وقد حمَّلك الله هذه المسئولية؟! لابد أن تقوم فتصلح هذا الفساد، فقال: يا بني ذاك أمر شاب عليه الصغير وهرم عليه الكبير، فإن ذهبتُ أحمل الناسَ على الحق جملةً تركوه جملةً، ولكن لله عليَّ ألا يَمُرَّ عليَّ يومٌ، إلا وأنا أحيي سنة وأميتُ بدعة.

لا بأس بالتدرج، ولكن التدرج الذي يمشي بخطى طبيعيةٍ، أما التدرج الذي يحيى سُنة ومعها مئة بدعة، وبعد سنوات يقيم سُنة ومعها مائة بدعة أخرى، فهذا ليس تدرجًا.. هذا قتل ووأد لمعنى الإصلاح.. لا نقول : إن المصلح يندفع ويتعجل، فليس هذا منهج الإسلام.. ولكن الإسلام علمنا كيف نصلح الفساد الأخلاقي للبشر، كانوا يشربون الخمور وكانوا يزنون وكانوا يسرقون، ولم يبدأ الإسلام بمنعهم من الزنا أو القتل، إنما بدأ يصلحهم شيئًا فشيئًا، حتى استقام أمرهم، وبالتالي حققوا معاني الإسلام، وفي سنوات معدودات كان قد أقام صرح الحق والعدل والهدى على أنقاض الجاهلية والظلم والفساد.

فالمشروع الإصلاحي الناجح هو المشروع الذي يراعي طبائع الناس، ولا يحمل الناس على الحق مرة واحدة لأن الناس لا يحتملون، لكنه أيضًا لا يبطئ في تدرجه البطء القاتل، إنما يتحرك بما يناسب حال الأمة ومصلحة الأمة؛ وهكذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم- وهكذا كان المصلحون من بعده.

المقوم الخامس: أن يكون الإصلاح شاملاً لكل مجالات الحياة:
فلا يصح أن نقول : إن مهمتنا الإصلاح الاقتصادي فقط، إنما لابد أن يكون الإصلاح عامًا : (اقتصادي - سياسي - علمي - أخلاقي.. إصلاح في كل المجالات)؛ لأن الإنسان وحده واحدة، لا تستطيع أن تفصل جانبًا منه عن جانب، لا تستطيع أن تجعل الإنسان مؤمنًا في جانب أو مصلحًا في جانب ومفسدًا في الجانب الآخر.

لذلك قلنا في البداية : إنه لابد أن تصلح النفس لكي يكون المشروع كاملاً؛ وقتها سيكون هناك إصلاح في كل شيء.

الأمة العربية قبل الإسلام كانت أمة يحكمها الاستبدادُ بأقسى صور الاستبداد، وكان هناك السادة والعبيد، وكان يشيع عندهم التعصب للقبيلة وشيخ القبيلة، كان هناك استبداد، وربما تفاخرت القبيلة بقدرتها على الاستبداد والظلم، كما في معلقة عمرو بن كلثوم الذي افتخر بقدرة قومه على الظلم فقال :

بغاة ظالمون وما ظلمنا            ولكنا سنبقى ظالمين

فكان معلنا للاستبداد ومعلنا للتعالي على الناس:

ونشرب إن وردنا الماء صفوا          ويشرب غيرنا كدرًا وطينا.

لهذا فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يقل : إننا يجب أن نصلح الاقتصاد أولاً، ولم يقل (ما أريكم إلا ما أرى)؛ حتى نجتاز هذه المرحلة؛ لا، ولكنه بدأ وهو ما يزال في مكة قبل أن يقيم دولة، يتلو على أصحابه قول الله عز وجل: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾(الشورى من الآية 38)، فهذا إصلاح سياسي، وهو لا يزال بعد لم يقم الدولة.

وأيضًا وهو لا يزال بعد لم يُقِمْ الدولة، بدأ الإصلاح الاقتصادي، فكثير من الآيات المكية تتكلم عن الإنفاق، قبل أن تُشْرَع الزكاة، وقبل أن تقام الدولة التي ستجمع هذه الزكاة وتنظم هذه المصارف.

وأيضًا وهو لا يزال بعد لم يُقِمْ الدولة، دعا إلى ترك الظلم، فهذا مشروع كامل؛ بحيث لما أقام الدولة في المدينة طبقه كاملاً، ببساطة شديدة جدًا.

الحُباب بن المنذر كان جنديًا عاديًا من عامة الجنود لم يجد في نفسه حرجًا في أن يتقدم باقتراح لقائد الجيش مع وجود كبار الصحابة وكبار الناس وكبار القادة، ويقول له: أهذا منزل أنزله الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟، فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فوضح له أن هذا الرأي خاطئ وقال: (إن كان كذلك فإني أرى أن ننزل إلى أدنى ماء قريب من القوم ونُغَوِّر ما وراءه من القُلُب ومن الآبار، ثم نجعل على هذا البئر أو على هذا القليب حوضًا؛ فنشرب ولا يشربون)، ولم يكن يُسمع عن الحباب بن المنذر قبل هذه الواقعة، وتقدم باقتراحه القيم مع أنه يرى أن من حول النبي- صلى الله عليه وسلم- قادةَ الناس وسادتهم أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ وسعد بن عبادة وغيرهم رضي الله عنهم جميعًا...

لا يمكن أن ينجح إصلاح اقتصادي في ظل استبداد؛ لأن الذي يحدث في ظل الاستبداد السياسي أن زمرة المنافقين يؤيدون المستبد، ويجاملونه في الباطل، وذلك لمصالحهم الاقتصادية، إذًا هو لكي يجامل المستبد سوف يفسد في الاقتصاد.إذا أنت إذا حاولت أن تصلح تحقق الفساد.

وهكذا إذا فكرت في إصلاح سياسي واقتصادي وتركت الأخلاق وتركت أجهزة الإعلام تملأ الدنيا دعوةً إلى الرذائل، ستجد النفسَ الفاسدةَ تنقضُّ على كل هذا.. ستجد السارق والزاني وآكل الرشوة وآكل الربا.. وستجد كلَّ المظالم والمفاسد قد حصلت في الأمة.

إذًا لكي ينجح المشروع لابد أن يكون شاملاً لكل مجالات الحياة؛ لابد أن يشمل مجال الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأخلاقي والتعليمي والإعلامي؛ لكي تكون الأمة حاملةً لمشروع واحد ومتعاونة في تحقيقه، وعندئذ يكتب الله تبارك وتعالى له النجاح.

المقوم السادس: أن يقوم على إقناع الأمة بجدواه وعدم إكراه الأمة عليه:
لا ينجح الإصلاحُ إذا فُرض على الناس فرضًا، فإذا كان هناك مشروعٌ للإصلاح؛ فلا بد أن يقتنع الناس به، ولا بد من عرضه على عقول الأمة، فإذا اقتنعوا شاركوك فيه، أما أن تفرضه عليهم فرضًا، فلا يمكن أن يكون مشروعًا إصلاحيًّا.

قضية فرض مشروع على الناس من غير إقناع هي مبدأٌ فرعونيٌ قديمٌ.. ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر: من الآية 29)، المشروع الإصلاحي الفرعوني يتلخص في: ألا يرى أحد شيئًا إلا ما يراه فرعون، فمن أين للناس أن يقتنعوا بهذا.

فعندما تقول لي: ساعدني في هذا المشروع، ولا بد أن نتعاون فيه، كيف نتعاون في شيء أنا غير مقتنع به أصلاً؟. 

عندما يقود قائد أمة إلى معركة، والأمةُ غيرُ مقتنعة بجدوى المعركة، والجنودُ غير مقتنعين بجدوى المعركة؛ فماذا سيحدث عند لقاء العدو؟، سيرفع الجميعُ الراياتِ البيضاء.. وبمجرد أن يجد أحدهم فرصةً للهرب سيطلق ساقيه للريح، وهذا ما يحدث عادة.

فهذا الجيش العراقي الذي دخل العراق.. لم يكن هناك شيءٌ أو سببٌ مقنعٌ لدخول هذا الجيش لمحاربة إخوانه المسلمين؛ لذلك أول ما بدأت المعركة.. انفرط العقد.

وهكذا فإنَّ حملة مشروعات الإصلاح، لا بد أن يعتمدوا على اقتناع الأمة بهذا المشروع، ولا بد أن يقدم المشروع إلى الأمة ولا يفرض على الناس فرضًا، ولا يُكْرَه الناسُ عليه، فهذا هو الذي يجعل الأمة تشارك وتساعد.

لذلك تعالَ إلى المشروع النبوي من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول الله تعالى:

﴿وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر﴾ (الكهف من الآية29)، يوضح أنه سيعرض الحق، وسيقدم أدلته وبراهينه، وسيعمل على إقناع العقول بجدواه وأصحيته، ثم يترك للناس الخيار في قبوله أو رفضه من غير إكراه ولا إجبار.

إذًا لكي ينجح المشروع الإصلاحي، فلا بد أن تقتنع الأمةُ بجدواه وأن تدرك قيمته؛ حتى يشارك الأفراد بإيجابيةٍ في هذا المشروع؛ لذلك فإنك إذا نظرتَ في سير الصحابة؛ رأيتَ كيف كانوا يتسابقون في حمل الرسالة وفي الدفاع عن الإسلام وفي تقديم الإسلام، وتجد من ذلك عجبًا! فكلنا يحفظ مقولة ربعي بن عامر، وإن كنا لا نعرف عن ربعي بن عامر الكثير، ولكن هذه المقولة تبين أنه شخص أدرك رسالةً اقتنع بها تمام الاقتناع، يقول: "خرجنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"، إنه رجل مقتنع بما خرج من أجله، وبما آمن به.

وحينما تطلب من الأمة أن تضحي من أجل مشروعك وهي غير مقتنعة به فأنت تضرب في الخيال، لكن إذا اقتنعتْ ضحَّتْ.

قل لي بربك: ما الذي يجعل خُبَيْبَ بنَ عديٍ يصبر على الصلب والقتل، ويقولون له: "أتحب أن تكون الآن في أهلك وأنَّ محمدًا مكانك"، فيقول: "والله ما أحب أن أكون الآن في أهلي ومحمد- صلى الله عليه وسلم- تصيبه شوكة" ؟ إنه رجلٌ مقتنعٌ برسالته ومشروعه؛ لذلك لا يُبالي بما يُقدِّم من تضحياتٍ في سبيله.

أما أن تَسُوقَ الأمةَ سَوْقًا أن تضحي من أجل مشروعٍ لم تقتنع به ولم تؤمن به ولم تعرف جدواه؛ فلا بد أن يقع الفساد في الأرض، ولا بد أن يسقط مثل هذا المشروع.

المقوم السابع: أن تكون بوابته الحرية ومنهجه الشورى وسنده العدل:
فالإصلاح لا يمكن أن يحصل مع الاستبداد والجبروت، فهذا أمر غير منطقي ولا تقبله العقول بطبيعتها.

في قصة سيدنا موسى لما خرج من المدينة على حين غفلة من أهلها.. ونحن نعرف القصة.. وكز الرجل فقتله، وفي اليوم الثاني وجد نفس الرجل الذي من شيعته يقاتل رجلاً آخر فاستغاث به مرة أخرى، فقال له: إنك لغوي مبين، يوضح القرآن ذلك فيقول: ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ (19)﴾ (القصص).

وسأعلق على الجزئية الأخيرة من الآية وهي: ﴿إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ﴾ (القصص: من الآية 19)، لا يصلح أن تكون جبارًا ومصلحًا في نفس الوقت، فأنت تقول: إنك مصلح، فلا يتصور أن يكون هناك جبروت وإصلاح في وقتٍ واحد، هذا غير منطقي، وهذا ما فهمه ذلك الرجل بالمنطق البسيط والفطرة الطبيعية.

كمن يقول: الديمقراطية لها أنياب، فكيف تكون ديمقراطية إذًا؟

لا يمكن أن ينجح مشروع إصلاحي في ظل استبداد، بل لا بد من الحرية، ولا بد أن تعبر الأمة عن رأيها بكل حرية، ولا بد أن يقوم المشروع الناجح على الشورى، فلا رأي لخائف، ولا عقل لمستعبد؛ لأنه حين يشيع الاستبداد يكون عقل الأمة عند حذاء المستبد، لا تفكر، وحتى لو فكرت، فالخائف إذا فكَّر يكون تفكيره مرتعشًا ورأيه يكون مشوشًا.

وبالتالي لا يمكن أن تدعي أنك مصلح أو تريد الإصلاح وفي الوقت نفسه تخنق حريات الناس وتمنع الشورى، بل لا بد من الشورى ولا بد من العدل.

ما الذي كان يمكن أن يحدث لو لم تكن في الأمة حرية، ولو لم يقم الحباب بن المنذر- رضي الله عنه- بعرض رأيه ومشورته على النبي- صلى الله عليه وسلم- في بدر؟ أو لو لم يقم سلمان الفارسي- رضي الله عنه- بعرض رأيه بكل حرية على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الخندق؟ ما الذي كان يمكن أن يحدث لو لم يحصل هذا؟!

لذلك تجد في المنهج النبوي ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: من الآية 38)، ولمَّا أدَّت الشورى في وقت ما إلى نتائج غير جيدة، كما في غزوة أحد، أنزل الله- عز وجل- على نبيه- صلى الله عليه وسلم- تأكيدًا لمبدأ الشورى ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ إلزامًا للنبي- صلى الله عليه وسلم- بالشورى على الرغم مما حدث.

فإذا كان النبي المعصوم الذي يتلقى الوحي من الله مأمورًا بأن يشاور أمته، وأن يشاور مَن حوله، ويقول لأبي بكر وعمر- رضي الله عنهما-: "والله لو اجتمعتما على رأي ما خالفتكما"، ويقول عنه أبو هريرة- رضي الله عنه: "ما كان أحدٌ أكثرَ مشورةً لأصحابه من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-" إذا كان هذا النبي المعصوم يفعل هذا، فما بالك بمن دونه؟

إنَّ أي حامل لأي مشروع إصلاحي لن يبلغ أن يكون مثل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لن يكون معصومًا؛ ولذلك فهو أولى أن يلتزم الشورى منهاجًا لمشروعه الإصلاحي.

إنَّ مدخل الإصلاح الناجح هو الحرية، ومنهج الإصلاح الناجح هو الشورى وعماد الإصلاح الناجح هي العدالة.

كان عمر- رضي الله عنه وأرضاه- حينما يعطى عماله (أي موظفيه الذين سيتولون أمور الناس) خطاب التكليف، يقول لهم: "أيها الناس، إنَّ الله عظَّم حقه فوق خلقه، ثم يقول: إني لم أبعثكم أمراء ولا جبابرة، ولكن بعثتكم أئمة الهدى يُقْتَدَى بكم، فلا تمنعوا الناسَ حقوقهم فتظلموهم، ولا تنزلوا بهم الغياض (الأرض الجرداء) فتضيِّعوهم، ولا تظلموهم فتفتنوهم، (وفي رواية: لا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم).

هكذا كان عمر- رضي الله عنه- وهو يعطي خطاب التكليف يوضح لعماله أنهم ذاهبون لإصلاح أحوال الناس ومساعدة الرعية، ثم يقول- رضي الله عنه-: "أما والله، لا يأتيني أحد برجل ظلمه أو أخذ حقه، إلا وجعلت له القصاص منه".

كان يقف- رضي الله عنه- بالجابية في موسم الحج، والناس من جميع الأقطار المختلفة قادمون، فيقول: أيها الناس، إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشارَكم ولا ليأخذوا أموالَكم، وإنما بعثتُهم ليعلموكم كتابَ ربكم وسنةَ نبيكم، فمن فُعل به غير ذلك فليرفعه إليَّ، فوالله لأُقِصَّنَّه منه، فقام سيدنا عمرو بن العاص- رضي الله عنه- وقال: يا أمير المؤمنين: أرأيتَ لو أنَّ واليًا أدَّب بعضَ رعيته، أكنتَ تُقِصُّه منه؟!، قال: إي، والذي نفسي بيده لأُقِصَّنَّه منه كيف لا وقد رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه.

ولهذا قال- صلى الله عليه وسلم-: "إذا كانت أمراؤكم خيارَكم، وأغنياؤُكم سمحاءَكم، وأمرُكم شورى بينكم، فظهرُ الأرض خيرٌ لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤُكم شرارَكم، وأغنياؤكم بخلاءَكم، وأمرُكم إلى نسائِكم فبطنُ الأرض خيرٌ لكم من ظهرها".

فلكي تقدم مشروعًا إصلاحيًّا ناجحًا فمدخل هذا المشروع الناجح هو الحرية، والإسلام قدَّم الحرية حتى في اختيار الدين، فلم يُكْرِهْ أحدًا على الدخول في الإسلام.

بل يوجد أعظم من هذا أيها الأحباب، مما لا يفهمه كثيرٌ من الناس، أنَّ الجهاد في سبيل الله شُرِع حتى يؤمنَ مَنْ يؤمنُ برغبتِه، ويكفرَ مَنْ يكفر برغبته، ولا يُكْرَه أحدٌ على الكفر، فالحربُ شُرعت والجهادُ شرع لتحرير إرادة الناس، وليس لإكراههم على الدخول في الإسلام، وقول الله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّه﴾ (البقرة: من الآية 193) يوضح ذلك.

لما كان كسرى يسيطر على الفرس ويمنعهم من الإسلام، فإنَّ الإسلام جاء يأمر الأكاسرة بترك الحرية للناس مَن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

ولما كان قيصر يسيطر على الروم ويأمرهم بالكفر، فقد جاء الفتح الإسلامي لا ليكره الناس على الدخول في الإسلام، ولكن ليطلب من قيصر أن يترك للناس حرية الاعتقاد، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا أعلى وأهم شيء، الحرية في العقيدة، فما بالنا بما دون ذلك من الأمور.

وما دام هناك حرية، وما دام هناك شورى وما دام هناك عدالة، فإنَّ بهذا ينجح المشروع.

المقوم الثامن: اعتبار وحدة الأمة صمام الأمان لمشروع الإصلاح:
فلا يعمل المشروع الإصلاحي الناجح لصالح فئة، ولا يصوغ قوانين لصالح طائفة، إنما يصوغ للأمة كلها ويعتبرها وحدة واحدة، حتى غير المسلمين: ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)﴾ (الممتحنة).

والنبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: "من آذى ذميًّا فأنا خصمه يوم القيامة"، وأكد النبي- صلى الله عليه وسلم- على حق غير المسلم في المجتمع المسلم، فطالما أنه لا يظاهر علينا ولا يحمل علينا سلاحًا، بل يعيش معنا، فلا بد أن نحميه، بل لا بد أن نقسط إليه ﴿أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ (الممتحنة: من الآية 8)، فالمشروع الناجح لا يلعب بهذه الورقة ليفسد الناس، إنما حينما يأتي مشروع ويكون تركيزه بأن يفرق بين الطوائف ويبذر بذور الشقاق بين الناس، فتحس فئة أنها مستفيدة من هذا المشروع وفئة أخرى بأنها متضررة، فما الذي سيحدث؟، كما نرى في كل بلاد الدنيا ستقوم الحروب، وستثور المشاكل، فمشروع الإصلاح الناجح هو مشروع يعمل لصالح الأمة بكل طوائفها، ولا يعمل لصالح فئة ولا حزب ولا طائفة ولا مذهب، إنما يعمل للأمة كلها.

وهكذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم-، عندما دخل المدينة كتب الوثيقة بينه وبين اليهود، وبينه وبين المشركين الذين يعيشون في داخل المدينة من أهل يثرب، وثيقة لإقامة الحقوق وصيانة الحرمات، ثم جاء الإسلام ليؤكد أن الأمة وحدة واحدة، فيقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)﴾ (الأنبياء)، ويقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "المؤمنون يد واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم"، فهذا هو المنهج وهذه هي طبيعة الإصلاح النبوي الذي سيكتب له النجاح.

المقوم التاسع: أن تشارك فيه الأمة كلها بكل أفرادها وطوائفها:
فلا بد أن تعمل الأمة كلها؛ لذلك جعل الله تبارك وتعالى فريضة الإصلاح على الناس أجمعين، كما قلنا في البداية، إن من أخطأ وأراد أن يتوب فلا بد له أن يصلح، الكل يقوم بهذه العملية (حاكمًا أو محكومًا أو طفلاً أو شابًا أو فتاة أو رجلاً أو امرأة).

ولنبدأ بالعنصر الذي نتصور أنه لا يمكن أن يشارك في عملية الإصلاح، وهو الطفل، ففضلاً عن قصة أصحاب الأخدود المعروفة فهناك نموذجًا عمليًا للطفل المصلح: لما سمع زيدُ بن أرقم- رضي الله عنه عبدَ الله بن أُبَيّ ابن سَلُول ورجالَه وهم يحلفون بالله إذا رجعوا إلى المدينة ليخرجون رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لم يسكت، وقال : والله لأبلغن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم جاء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله سمعت عبدَ الله بن أُبَيّ يقول: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وجاء عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول يحلف بالله ما قال، وتكاثر أصحابُه وقالوا: يا رسول الله، تسمع كلام هذا الصبي ولا تصدق كلام هذا الرجل الكبير؟! وكاد النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يصدِّق كلامَهم؛ حتى نزل القرآن بالسورة التي تُعرف باسمهم (سورة المنافقون)، فهذا طفل، ولكنه أدرك أن عليه دورًا فأداه. 

نموذج ثان من النساء، السيدة أم سليم (الرميصاء)، والدة سيدنا أنس بن مالك- رضي الله عنه- لما دخل الإسلامُ قلبَها طلبتْ من زوجها مالكَ بن النضر أن يدخل في الإسلام، فأبى، فأبتْ أن تعيش معه، وقالت: إما الإسلام وإما المفارقة، فانصرف مالك لا يُدْرَى أين ذهب، وجاء أبو طلحة الأنصاري- وهو لا يزال مشركًا- يريد أن يتزوجها، فقالت: والله يا أبا طلحة ما مثلك يُرَدُّ، ولكني مسلمةٌ وأنت مشركٌ، فإنْ تُسْلِم فذاك مهري، (جعلت مشروعها الإصلاحي يبدأ من مهرها)، فأسلم وكان هذا مهرَها، فقال عبد الله بن عباس- رضي الله عنه-: "ما سمعنا بامرأة قط في جاهلية ولا في إسلام كان مهرُها أحسنَ من مهر أم سليم".   أليس هذا إصلاحًا؟ أن تنقل رجلاً من الكفر إلى الإسلام؟ فتأخذ أجره وأجر جهاده من غير أن ينقص ذلك من أجره شيء، ونماذج النساء المصلحات كثيرات.

فإن تكن النساء كمن ذكرنا             لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب         ولا التذكير فخر للهلال
نموذج ثالث من عامة الناس، يحكي الله لنا في سورة (يس) أنه أرسل ثلاثة من الرسل ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)﴾ (يس) إلى آخر الآيات، فانظر معي إلى هذا الرجل المؤمن الذي رأى الرسل ورأى على وجوههم الصلاح والإيمان، وأدرك أن هذا مشروعٌ إصلاحيٌ ناجحٌ وصحيحٌ، فلم يتوانَ ولم يتردد وقام مباشرة بعملية الإصلاح، كما يوضح القرآن: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)﴾، إلى آخر الآيات، فهذا نموذج عادي من عامة الناس أدرك أن هذا واجبه.

ونموذج رابع من بيوت الملك والعز والشرف، رجل من آل فرعون قام بدوره في الوقت المناسب.

وأما نماذج الحكام المصلحين فحدِّث ولا حرج، فهذا أول الحكام سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وسيدنا أبو بكر وسيدنا عمر، وسيدنا عمر بن عبد العزيز... نماذج لا حصر لها. 

وهكذا طوائف الأمة تشترك في هذا المشروع.  

لا نجاح لمشروع الإصلاح الذي يريد نقل الأمة إلى مصاف الأمم المتقدمة إلا حينما يدرك كل إنسان أن عليه دورًا وأن عليه واجبًا، أما حينما تتقوقع الأمة، ويهتم كل فرد بنفسه، ولا يهمه أن يرى فسادًا قائمًا، ولا يشغله أن يقوم عوجًا فسوف تغرق السفينة بمن فيها، ويبين لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مثالاً لذلك فيقول: "‏مَثَلُ الْقَائِمِ على حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا على سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا على مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا ! فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا على أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا، فلو تركوهم كان ذلك كفيلاً بأن تغرق السفينة بما فيها ومن فيها".

وضرب الله لنا مثلاً ببني إسرائيل فقال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)﴾ (المائدة: 78-79).

المقوم العاشر: أن يكون دمُ المسلم وعِرْضُه خطًا أحمرَ لا مجالَ للاقتراب منه
هذا هو أهم هذه المقومات: أنه لا يمكن أن يكون الإصلاحُ ناجحًا إلا إذا كان دمُ المسلم وعِرْضُه خطًا أحمرَ لا مجال للاقتراب منه. 

فكيف تُصلح وأنت تقتل؟ كيف تصلح وأنت تسفك الدماء أو تنتهك الأعراض والحرمات؟ كيف تصلح وأنت تتعرض لحرمات الناس وتنتهك خصوصيات الناس؟ لا يمكن أن يكون ثمة مشروعٌ إصلاحيٌّ يحمل السيفَ إلا للدفاع عن الدين أو الدفاع عن الأمة، أما المشروع الإصلاحي الذي يحمل السيف على بقية إخوانه لو عارضوه، فلا يمكن إلا أن يكون مشروع إفساد وتدمير وهلاك.  

وقف النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ليعلن الخطاب الفاصل، ويحدد الدستور الخالد، فقال: "أيها الناس، أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. ثم سكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، ثم قال: أليس يوم النحر؟، قلنا: بلى، قال: فأي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. ثم سكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟، قلنا: بلى، ثم قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. ثم سكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس البلد الحرام؟، قلنا: بلى، قال: فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه".

وإليك هذا الملمح الرائع من ملامح النجاح في سياسة سيدنا عمر- رضي الله عنه-: كان -رضي الله عنه يسير في بعض طرقات المدينة مع سيدنا عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- يتفقد أحوال الرعية، فسمع أصواتًا ولغطًا، فقال: يا عبد الرحمن، أتدرى بيتُ من هذا؟، قال: لا قال: هو بيت فلان، وهم الآن شُرْبٌ (أي أنهم يشربون الخمور)، فما ترى؟، قال: يا أمير المؤمنين، أرى أنَّا قد أتيْنا ما نهي اللهُ عنه، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلا تَجَسَّسُوا﴾(الحجرات من الآية 12)، ونحن الآن نتجسس، فانصرف عمر- رضي الله عنه- (بالرغم من علمه) لكي لا يأخذ أحدًا بالشبهة.

وهذا سيدنا عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- كان قاضيًا على الكوفة، وجاءه رجل فقال: هذا فلانٌ تقطر لحيتُه خمرًا، (أي أنَّ فلانًا هذا يشرب الخمر)، فقال- رضي الله عنه-: "إنا قد نُهِينا عن التجسس، ولكن إنْ يظهرْ لنا شيءٌ نأخذْ به"، (أي لا نأخذ الناس بالشبهة).

فلا تدخل بيوت الناس في منتصف الليالي تخرب العامر وتروِّع الآمن وتقول: إنك تصلح؟! فأين حرمات المسلمين؟ وتعتدي على أموال المسلمين ودمائهم وتقول: إن هذا إصلاح، لا يمكن هذا أن يصح في الأذهان.

إنَّ منهج الإصلاح الناجح منهجٌ سلميٌ يؤثر اللينَ والكلمةَ الطيبةَ، حتى إذا اعْتُدي على صاحبه فإنه يصبر ولا يثير فتنًا بين الناس، ولا يعتدي على أموال الناس ولا على أعراض الناس؛ لأنه يعلم أنَّ القاتل يأتي يوم القيامة ورأس المقتول بيده، فيقول المقتول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟، فيقول الله تعالى: فيم قتلتَه؟ فيقول: يا رب قتلتُه لتكونَ العزةُ لك، فيقول الله تعالى: فإنها لي، ويأتي الآخر يوم القيامة وبيده رأس المقتول، فيقول المقتول: يا رب سلْ هذا فيم قتلني؟، فيقول الله تعالى: فيم قتلته؟ فيقول: قتلته لتكون العزةُ لفلان، فيقول الله تعالى: فإنها ليست لفلان، إنها لي، فيبوء بإثمه.

المنهج الإصلاحي الإسلامي يعتمد على عدم الإثارة أو إحياء الفتن أو الاعتداء على أعراض الناس أو تجريح الأشخاص أو الهيئات أو قتل الناس أو إصابتهم بأي أذى، يعتمد على الكلمة الطيبة الرفيقة الرقيقة التي فيها قال الله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة: من الآية 83)، بل يعتمد الأحسن من الكلام، كما في قول الله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)﴾ (الإسراء).

لهذا فإنَّ المصلح الحقيقي يجب أن يقدم مشروعه الإصلاحيَّ بأدبٍ من غير أن يعتدي على أحدٍ، ولا يعتدي على حرمات الناس، بل يتقدم بمشروعه وهو يحافظ على أعراضهم، فلا مجالَ للعنف في مشروع يوصف بأنه مشروع إصلاحي، ولا يُتصوَّر الاعتداءُ على حرمات الناس ممن يقول إنه يصلح، لا يُتَصَوَّر على الإطلاق الاعتداءُ على أموال الناس ممن يدعي أنه يصلح.

تاسعًا: كيف طبق النبي- صلى الله عليه وسلم- الإصلاح الذي جاء به:
تلك كانت مقوماتِ المشروع الإصلاحي النبوي، فكيف عامل النبي- صلى الله عليه وسلم- الناسَ، كيف قدَّم مشروعه، وكيف تعامل حتى مع الذين خالفوه وآذوه؟

جاء رجل قد تسلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منه بعيرًا إلى أجل (رجل أعطى النبي- صلى الله عليه وسلم- بعيرًا إلى مدة)، فجاء قبل انقضاء المدة، فقال: يا محمد أدِّ إليَّ ديْني فإنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل (أي قوم تماطلون، وهي كلمة مسيئة للنبي- صلى الله عليه وسلم-)، والصحابة- رضي الله عنهم- حاضرون، فهمُّوا به سوءًا، وهمَّ به عمرُ بن الخطاب- رضي الله عنه- حين رأي سوءَ أدبه مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فروَّع الرجل، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: يا عمر، "كنا أحوج إلى غير هذا منك، أن تأمرني بحسن الأداء، وأن تأمره بحسن الطلب". ثم قال: "يا عمر، أدِّ إليه بعيرَه وزده بعيرًا لقاء ما روَّعتَه".

ويأتيه رجل ويقول له: يا محمد، اعدل فإنك لم تعدل، (يعبر عن رأيه ولكن بسُوء أدب مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-)، ومع ذلك لم يواجهه النبي- صلى الله عليه وسلم- بالضرب ولا بالسجن ولا بالإبعاد، ولا بشيء من هذا، إنما يقول له- صلى الله عليه وسلم-: "ويحك! فمن يعدل إن لم أعدل؟!" ثم يقول: "رحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".

هذا هو مشروع الإصلاح الإسلامي.. حتى حين يعتدي على صاحبه بالقول أو بالسوء، يصبر، حتى وهو قائد الأمة وأمير الناس وصاحب الكلمة النافذة والأمر المطاع يصبر.

وهذا هو عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، دخل عليه أحد الأعراب الجفاة (أدخله قريبه من الذين كانوا يجلسون في مجلس عمر- رضي الله عنه-، فاستأذن له الرجل على عمر فدخل)، فقال هذا الأعرابي لعمر- رضي الله عنه-: هيه يا عمر، اعدل فينا، فو الله ما تحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل، فاحمر وجه سيدنا عمر واشتد غضبه، ولكن جلساء عمر يعرفون دواء عمر، فقال الرجل قريب هذا الأعرابي: يا أمير المؤمنين: إنَّ الله تعالى يقول: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ (199)﴾ (النساء)، وإنَّ هذا من الجاهلين، وكان عمر- رضي الله عنه- وقَّافًا عند كتاب الله عزَّ وجل، فما جاوزها عمر حين تلاها، ولم يدفعه هذا الأسلوب الفظ إلى الإساءة، وعفا عن حقه.

وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعفو عن كل شيء إلا شيئًا لله تبارك وتعالى.

هذا هو الخلق الذي ينبغي أن يكون عليه مَن يقول إنني أحمل مشروعًا، والذي يريد أن يقدم إصلاحًا، لا بد أن يكون هذا المشروع بهذه المقومات وبهذه الخصائص.

أيها الأحبة الكرام.. هذه مقومات الإصلاح الناجح، وهذا هو مشروع الإصلاح الإسلامي الذي جاء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، والذي كما قلت، يمكننا أن نختصر رسالته- صلى الله عليه وسلم- في كلمتين: أنها رسالة الإصلاح، بل رسالات الأنبياء إنما هي رسالات الإصلاح، وكل محب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وكل تابع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- على بصيرة، عليه أن يحمل هذا المشروع ويبشر به الأمة، ويدعو الناس إليه، وما لم نحمل قضية الإصلاح كلُّنا، حكامًا ومحكومين، أفرادًا وجماعات، كبارًا وصغارًا، رجالاً ونساءً، فإنَّ الهلاك قادم لا محالة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾ (هود)، وقال: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)﴾ (الأعراف).
أسأل الله سبحانه تعالى أن يجعلنا من المصلحين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ملاحظة هامة الموضوع كله منقول ....جزى الله كل السادة العلماء خير الجزاء 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق