الأربعاء، 5 مايو 2010

الصلاح والاصلاح في القرآن




الصلاح والاصلاح في القرآن (3)



المبحث الثالث
مجالات الإصلاح

العمل الإسلامي كله إصلاح، وهو عمل يتعدد الجبهات ومتراميَ الأطراف، وان الحاجة إلى الإصلاح في مختلف القطاعات وعلى شتى المحاور حاجة ماسة، وكما يتبيّن من كلام القرطبي( [58])، " بأنّ الإصلاح عام في الدماء والأموال والأعراض وفي كل شيء يقع الداعي والإختلاف فيه بين المسلمين، وفي كل كلام يراد به وجه الله" ( [59]).

المطلب الاول
أولاً: الإصلاح السياسي:

لم تكن جهود المصلحين مقتصرة على الدعوة والإصلاح الفردي والوعظ والإرشاد، بل رافقت هذه الجهود التي لم تنقطع محاولاتها، كانت تظهر على فترات قصيرة لقلب الحكم وإعادة الخلافة إلى نصابها والقضاء على هذا الاحتكار الأموي أو العباسي للخلافة والحكم ( [60]).
هكذا كانوا، لأنّهم كانوا يعلمون ما في السياسة في تدبيرالأمور، والسياسة نفسها تعني الإدارة وفن التعامل مع الممكن والواقع، وهذه الإدارة كانت بيد السلطة، فالمصلحون إهتموا بها من أجل إدارة الناس على الشكل المطلوب ، " وللمسلمين أن يفاخروا أمم الأرض بالصرح الفقهي الشامخ الذي شيده فقهاء المسلمين، حيث انه قد غطى على نحو يدهش ما يحتاجه الفرد المسلم في جميع جوانب حياته من الولادة حتى الممات ، بل قبل الولادة لإختيار الزوجة الصالحة، وبعد الممات أيضاً من تعلق به كثير من الاحكام " ( [61]).
والإصلاح في المجالات الأخرى لا يتم إلاّ من خلال الإصلاح السياسي، فإن الضرورات التي تقيم المجتمع من الالتزام و الإنضباط والحماية وغيرها لا بد القيام بالإصلاح السياسي أو بعد إصلاح السياسية.

الاعتماد على لغة الأنبياء:
في الإصلاح السياسي يجب أن نعتمد على لغة الأنبياء الذين قاموا بتغيير وإصلاح اللاّشرعية بالشرعية وإزالة الخطأ بالصحيح، وهذا ما فعله الرسول ( صلى الله عليه وسلّم ) الذي أصلح المجتمع بالفكر و السلم، وما دافع عن نفسه أمام أبي جهل يوماً، لأن القيام بإنشاء مجتمع في دولة، يجب أن يقوم على أساس من السلم، لذا ترى كيف انشأها في يثرب وبدّل إسمها إلى المدينة، ومنها إلى المدينة المنورة، ولم سيتخدم العنف، ولكن إستقبلوه أهلها بأصوات تعلو، (طلع البدرعلينا ) وهذا شأن جميع الانبياء والمرسلين في الإصلاح والتغيير .

الإصلاح السياسي أو سياسة الإصلاح:

عندما نتحدث عن لغة الانبياء يتبيّن لنا بوضوح انها كانت سياسة الإصلاح السلمي البعيد عنم العنف، لان القصد من سياسة الإصلاح إيجاد الإصلاح في الشعوب والمجتمعات ( فمن الخطأ أن نعلق الإصلاح والفساد بالحكام وليس بالشعوب، والحاكم الصالح لن يغيّرأمة فاسدة، بل سيفسد هو، ولا يمكن أن نأتي بمثله ، ولكن الشعب غير الواعي بما فيه الكفاية خذله وقتله) ( [62]).
سياسة الإصلاح هي ضمون لـ (لا اكراه في الدين):
تذكر الإحصاءات إن قتلى المسلمين والمشركين في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) لم يتجاوزوا ( 1200) شخصاً! وهذا رقم متواضع جداً في عمل ضخم أدى إلى إخضاع ما ينسبه القارة لسلطان حكومة واحدة ( [63]).
ويكفينا في سياسة الإصلاح أن نشير إلى موقف هابيل الإصلاحي أمام موقف قابيل المتجاوز للحد في الخشونة، فالذي إنتصر وغلب وجذب الرأي العام وشعور العالم نحوه هو المستعمل لسياسة الإصلاح } لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ { المائدة:28.
أما الذي خسر وندم ، الذي إستعمل لا( لِأَقْتُلَكَ ) وقتله بالفعل ، لكن الفهم الحقيقي للنصر ليس بالأمس المحسوس، لكن بالنتيجة النهائية.

من أهداف الإصلاح السياسي:
1- الحرية: المطلب الإسلامي، الذي شرع من أجله دفع الزكاة - و في الرقاب - ليتمتع بالحرية، وشرع من أجله الحدود في الذنوب، بفك الرقبة لنفس القصد، ويعاتب الباري عزوجل على المستهينين فيه، } فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ { البلد:11 ؟.
وإنعدام حرية التعبير حالة سائدة بسبب بسيط، لأننا لانملك رأياً نعبّرعنه طالما كان الرأي يدور حول تصفية الآخر ، فالرأي يقوم بإغتيال نفسه قبل الولادة لذا إنعدم التعبير وحريته بألية عجز ذاتية محضة ( [64]).
2- العدل: يعني العمل على إيجاد العدل الذي من صفته إستقرار الحرية والأمن بين افراد المجتمع ورفع الظلم بشتى الوسائل، وأي مجتمع لم يتحلى بالعدل فمصيرها الزوال أيّاً كانت عقيدتها، و على المصلحين ايجاد آلة ضد الظالم مسلماً كان أم كافراً، ولا يمارس العنت ضد من تقوم دولته وأخلاقه على العدل بغض النظر عن عقيدته أيضاً - أي مسلماً كان او كافراً، فالمهم هو إيجاد العدل- ( [65]).

ثانياً: الإصلاح الإجتماعي:

الإنسان بحاجة إلى الإنتماء، والإنتماء هي الحاجة التي تكمل إنسانية الإنسان، فالإنسان خارج الجماعة تكون خبراته جزئية وناقصة ، حتى قال البعض بإن الإنسان بدون عضويته في الجماعات المختلفة والمجتمعات ،لا يستطيع أن يتجاوز المستوى الإنساني.
ويطلب الاسلام منا إثبات الذّات والكرامة ، فروح الأسرة الواحدة لا يأتى إلا من الشعور بالانتماء لهذا المجتمع، وحرص أفراده على التمسك بقيمه وعاداته التى إنتقلت من جيل إلى جيل بفضل القدوة الصالحة وما تلقى الجميع من روح المودة والمحبة والالفة في الاسرة الصغيرة والتى خرجت لتمثل المجتمع الكبير ( [66]).
ولا شك ان هناك امراضاً إجتماعية قاتلة وفساد تفشي في المجتمع بلا تأخر، وفي هذه الحالة تفقد الأمة هيبتها ومقومات حياتها، واليوم أوجدت مسارات جديدة على الساحة تهدد أمن المجتمع وإستقراريته تحرم المجتمع من طاقات أبنائه المخلصين، فهذا المجتمع بحاجة إلى الإصلاح بدءً من إصلاح الافراد والأ سر.
فمضمون الإصلاح الاجتماعى: " حركة تحاول تحقيق كلام المجتمع الناتجة عن سوء قيام النسق الاجتماعى بوظيفته ، أو عدم قيام جزء من أجزائه بوظيفته خير قيام، وقد يمتدالإصلاح على جوانب شتى من جوانب المجتمع، ويدخل عليه تغيرات كبيرة ربما كانت أشبه بالثورة الإجتماعية ، والثورات الحقّة هي تلك التى تؤدي إلى اصلاح جذري ملحوظ " ( [67]) .
التغير والإصلاح فى المجتمعات لا يعنى تغيير الجبال والبيوت والأشجار إلى لون غير الأول ، ولا تغيير الاوجه والمناظر ولا نقل الاودية، وهكذا لا يعني التغيير في أعضاء الإنسان بالزيادة فيها أوالنقصان، لكن يعنى تغيير الشعور الداخلي في نفس الإنسان وتزويده بالمكارم والفضائل ليصبح عنصراً ولبنة ذى دور في المجتمع.
فواجب الفرد كل الأفراد - الحاكم والمحكوم - أن يرقي الإنسان بالمجتمع، ويرقي المجتمع بالإنسان وأن يخلص الإنسان للمجتمع، ويحافظ المجتمع على الفرد وأن يحمى الفرد المجتمع من القوارض الإجتماعية وأن يصبح المجتمع أمنة على الفرد، أن يعتزّ الفرد بالمجتمع الذى ينتمي إليه( [68]) .
والإصلاح الإجتماعي مرهون بإدراك كل فرد حقوقه وواجباته , فالمجتمع كله مسؤول عنه , فإذا أدّى إلى خصومة أو نزاع بين أفراد المجتمع فلابد أن يتدخل كل بقدر طاقته , نستطيع أن نشبّه الأمراض الإجتماعية بالحريق, لكن حريق لايدمر البنيان والحجارة ولايهدم الجبال الرواسي , ولايقطع منابع الماء ولكن يأكل القلوب والضمائر ويهدم كل معاني الالفة والمحبة والخير في الصدور، فعلى المجتمع أن يقوم لإخماد أي نزاع ولو كان ذلك بين زوج وزوجته, } وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً { النساء:35
إذا كان المجتمع يطالب بالإصلاح في نزاع وقع في أسرة فكيف بنزاع أكبر فيه هدم الأسر } وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ... { الحجرات: الآية9.


المطلب الثاني
أولاً: الإصلاح الإقتصادي
ان الإقتصاد في الماضي والحاضر والمستقبل هو عصب الحياة النابض وشريانها المتدفق, لذا فإنه يؤثر في الإنسان تأثيراً مباشراً في جميع أحواله الفكرية والدينية والسلوكية، ويوْثر في الأمة من جميع نواحيها العسكرية والسياسية والقانونية والإجتماعية، فالإقتصاد القوي عنوان المجد والقوة والسيادة، والإقتصاد الضعيف رمز التخلف والتأخر والإنحطاط، ولقد كان الحروب والمنازعات على الصعيدين القبلي والدولي ترجع في أغلبها إلى أسباب إقتصادية، ومازال الناس أفراداً وجماعات منذ فجر التاريخ مهتمين بوسائل المعاش ومتاع الحياة، وينعكس أثرالإقتصاد على السياسية الدولية بشكل واضح ( [69]).
ويمكن أن نعرف التنمية الإقتصادية من منظور إسلامي بأنها " مجموعة الانشطة التي تستهدف تحقيق قدر من الرخاء المادي المناسب لتفتح جوانب الشخصية الإنسانية بما يؤهلها للقيام بحق الإستخلاف في الأرض " ( [70]).
وإذا كان هذا شأن الإقتصاد وتأثيره في العالم فلا بد من أن يكون للإسلام خطة واضحة في القضايا الإقتصادية ، إذ أنَّ شريعة الخلود الدائمة التي تقدر تماماً ما للوضع الإقتصادي من تاثير كبير في حياة الأمة، والتي تتجاوب مع مقتضيات التطور والتبدل الذي يمرعلى البشرية، وليس من المعقول أن لايكون هناك أساس إقتصادي للحضارة الإسلامية التي ساد في العالم ، عدة قرون من الزمان ، وكان الرفاه والرخاء يعم الأوساط الإسلامية حتى أنه لايكاد يجد الغنيّ أحدا من الفقراء ليعطيه زكاة أمواله في بعض عهود الدولة الإسلامية الزاهرة ، لأنها - أي معالم النظام الإقتصادي الإسلامي- تتلائم مع الفطرة الإنسانية وتلتقي مع العدالة والحرية والرحمة , وتصدر عن تخطيط إلهي أو عن تنظيم إقتصادي مستقل مجرد عن النزاعات والأهواء الخاصة ( [71]).
خاض الإسلام حرباً من أجل الفقراء, و( ان الربا والرشوة والإحتكار ليست أنشطة إقتصادية فاسدة وسيئة في حد ذاتها فحسب , وإنما هي سيئة أيضاً في نظر البنية العقيدية والأخلاقية لدى المسلم، وممارسة هذه الأنشطة لاتؤدي إلى تلويث المجال التجاري وحده وإنما يمتد تأثيرها السئ إلى صفاء العقيدة وإلى علاقات المسلم الإجتماعية وسمعته بين الناس ) ( [72]).
أما عن المعضلة الإقتصاد وكيفية مجيئها؟ , فالمشكلة ليست في الطبيعة ولا في التناقض بين الانتاج والتوزيع , بل المشكلة في الإنسان نفسه الإنسان مع الإنسان الذي يعيش معه ويسكن بجانبه، قال تعالى : } اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ { إبراهيم :32-34 ، فهذه الفقرات تقرر بوضوح : ان الله تعالى قد حشد للإنسان في هذا الكون الفسيح كل مصالحه ومنافعه ووفر له الموارد الكافية , لإمداده بحياته وحاجاته المادية ولكن الإنسان هو الذي ضيّع على نفسه هذه الفرصة التي منحها الله له، بظلمه وكفرانه، إن الإنسان لظلوم كفّار فظلم الانسان في حياته العملية وكفرانه بالنعمة الالهية هما السببان الاساسيان للمشكله الإقتصادية في حياة الإنسان( [73]).
ويتجدد ظلم الإنسان على الصعيد الإقتصادى : في سوء التوزيع ويتجسد كفرانه للنعمة في إهماله لإستثمار الطبيعة وموقفه السلبي منها، فحين يمحي الظلم من العلاقات الإجتماعية للتوزيع , وتجند طاقات الإنسان للإستفادة من الطبيعة وبإستثمارها تزول المشكلة الحقيقية على الصعيد الإقتصادي ) ( [74]).
والآن عرفنا المشكلة فعلينا إصلاحها , وفي كثير من الاحيان لانعتبر للمال أي إعتبار ونراعي في الصرف ولافي طرق الكسب إذا لم يكن لدينا شعور ديني قوي، ووعي يقظ وإيمان بسؤال ( فيم أنفقته ) يوم القيامة ؟ ، " فالإقتصاد متعلق بالوعي الديني والاخلاقي والشعور بالمسؤلية الإجتماعية، والإهتمام بالإقتصاد ياتي من الإهتمام بالأراضي إقتصادياً من باب الحب للوطن، وأن يكون في قلوبنا وعقولنا لاعقولنا فقط،.
و الرخاء الإقتصادي مطلب إسلامي وكذا تكوين رأس مال فردي ومال وطني ولا سيما إننا في زمان صارالمال فيه الأداء التي يستخدمها كل شيء " ( [75]).
وإحياء الأموات ما كانت إلاّ إهتمام الشريعة بالأراضي فـ( الأراضي الميّتة عند الفتح، فقد سمحت الشريعة للأفراد بممارسة إحيائها وإعمارها ومنحتهم حقاً خاصاً فيها على أساس ما يبذلون من جهد في سبيل إحياء الأرض وعمارتها ) ( [76]).


ثانياً: الإصلاح الأخلاقي

لا شك ان الإنسان مكون الجزئين، جزء مسمى مادي وجزء روحي، فيأتي إهتمام الإصلاح الإسلامي في الأخلاق وبإستطاعته أن تؤثر في معنويات وأرواح المجتمع تأثيراً كما ينبغي، لأن الإنسان كما يصاب، يمرض جسمه وكذلك روح الإنسان يتألم من الأمراض في كثير من الأحيان فحياة الأرواح حياة خاصة أشار إليها القران الكريم ( لينذر من كان حياً ) إلى حياة الروح، وكذلك (ومن كان ميتاً فأحيناه) فيها إشارة إلى نوع الحياة الروحي، فالذي يصاب بالمرض الروحي شبّهه الله بالموتى.
وبهذا المفهوم يتجلى حكمة إرسال المرسلين المصلحين، لأنّهم بمثابة أطباء روحانيين، قد وضعوا الأرواح تحت الفحوصات والتشخيص ليعالجوا روح الإنسانية، من الأمراض التي يدور حولها، ومسؤولية الإنسان في هذا العصر تكبر وتشمل جميع النواحي ، وهي عظيمة لأنها متعلقة بالروح التي هي مادة الحياة، وتسود المجتمع الأمن والسلام إذا كانت الأرواح في حفظ من سيء الأخلاق، لذا لم يترك الإسلام ميدان الأخلاق سدىً وإنما إعتبرها من صميم الدين وجعلها حكمة لمبعث الرسول ( صلى الله عليه وسلّم ) .
الإصلاح الأخلاقي للمجتمع عبئ عظيم، لاننا نرى تهذيب النفس واصلاحها لوحدها يتطلب كثير من المطاليب، اوقات، اتعاب، واكال اشياء، فكيف باصلاح مجتمع واستقامة الاشخاص، لذا قال الشاعر:
إنّما الأمم الأخلاق فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ونعني بالأخلاق كيفية تعامل الإنسان مع الحياة، مع الله والكون، ومع الإنسان والجمادات، فالنصوص الآتية تدل على حقيقة الأخلاق الصالح التي يجب ان يتصف بها الفرد المسلم.
قال تعالى : } وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً { الاسراء:70، فيجب التعامل على قاعدة التكريم.
ـ (( لئن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خيرٌ له من أن يجلس على قبر)) ( [77]).
ـ (( لا يشير احدكم إلى اخيه بالسلاح فانه لا يدري لعمل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)) ( [78]).
ـ (( بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها فخرج فاذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطب أجر )) ( [79]).
((
وعن إبن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش، فجاء النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) فقال:من فجع هذه بولدها ؟ ردّوا ولدها إليها ، ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال : من حرق هذه ؟ قلنا نحن قال: لا ينبغي أن يعذب بالنارإلاّ رب العالمين )) ( [80]) .
والوسيلة الوحيدة للإصلاح الأخلاقى هي تربية أفراد المجتمع على الشعور بالتكليف أمام ماذكرنا وغيرها بكثير.
"
ظلت مسألة الشعور بالواجب من أخطر المشكلات الأخلاقية التى عانت منها أمم على مدار التاريخ، وبسبب فقد هذا الشعور دخل الكثير من المجتمعات أنفاق التفكك والفوضى واللامبالاة وبالتالي التخلف " ( [81]).

كيفية اشاعة روح الشعور بالتكليف ؟
1-
تعميق مفاهيم الواجبات الشرعية لدى المسلم على الصعيد الفردي والاسري.
2-
الوعي بالواجبات الحضارية التي يقوم عليها تقدم الأمة اليوم .
3-
القدوات والنماذج ذات الأثر البالغ في إشعارنا بواجباتنا والحقيقة ان الاحساس بمسولية كثيرة مايكون هيبة المجتمع المتقدم لابنائه البررة .
4-
الارادة الصلبة والعزيمة الماضية والاصرارعلى الوفاء بالالتزامات .
5-
الاحساس بالواجب من خلال أنوار الهداية الساطعة في منطقهم وقبل ذلك في سمتهم وهديهم وسلوكهم .
6-
فهم الذين يكسرون المعادلات الإجتماعية الصعبة، فان علينا ان نتعلم، ونعلم الآخرين بأن تحديد وقت الاداء واجب يخد م المصلحة العامة على الصعيد الإجتماعي أوالدعوي أوالإقتصادي أوالخدمي .( [82]).

ثالثاً: الإصلاح الفكري

الأفكار مطالبة بالعبودية:هذه هي مشكلتنا الاساسية في الفكر، نحصر العبادة على وضع الجبهة لله ونقوم ببعض العبادات الجسمية ( صوم ،زكاة ,حج …ألخ )، لانعلم ؟ أو لانريد أن نتعلم بأن خطاب الله للعقول أولاً ( فأعلم أنّه لاإله إلاّ الله) فكما يسجد الرأس ويخضع لسلطان الله ،لأن الإنسان واحد لايتجزأ مادة وروح معنوي جوارح وعواطف ومشاعر وأحاسيس وأفكار وعقل، وهذه تكّون الحياة للإنسان وكل يوم نتعاهد مع الله بأن ( محياي ومماتي لله ) فما هي الحياة ؟ أهي حياة العينين واليدين والجبهة ؟ أم هي حياة كل ما ذكرنا ؟ لايشك عاقل فإن الحياة هي كل ماذكرنا، لذا فكله مأمور بالعبودية ، ويجب تهذيب الكل وهذه هي معنى شمولية الاسلام بأنها رسالة الإنسان كله.

قوة الفكر :
والفكر هو الذي يقود التقدم , فلاينكر لمجتمع أن ينهض مالم يتقدم الفكر لديه ويكن في وسعه توفير الأسس المنهجية والإصلاحية لذلك ، فان لحيوية الأفكار سلطاناً أعظم بكثير مما يظن الناس وان قوة الفكر في المدى البعيد هي أكبرمن أية قوة إنسانية أخرى, مع أن ثمار إشراقات المفكرين قد لاينفع بها الناس إلا بعد ممات أصحابها ( [83]).
والفكر خاصية من خصائص الإنسان لايشترك معه فيه أي مخلوق آخر ولايطلق الفكر إلا على العمليات الذهنية التي يقوم بها الإنسان , اما الحيوانات فحتى المظاهر التي تشبه عملية الفكر لدى الإنسان – عندها- لا تسمى بفكر وإنما تسمى بالتوجيه الغريزي , حتى المناطقة الأقدمون يفسرون الإنسان ( فيعرّفونه بأنه حيوان ناطق ), أي مفكر, اما بقية الحيوانات فلها التوجيه الغريزي ونحوه وهو الذي يقابل الفكر والذهن والقوى العاقلة عندها ( [84]).
والقرآن الكريم حارب جاهلية تسمى بجاهلية الإبائية , وهي التقليد في الفكر ( اما التفكير التقليدي فهو عدم إستعمال القدرات العقلية واللجوء إلى المحاكاة او الابائية والاكتفاء بالمألوف القائم , ولافرق أن يدورالتقليد حول نماذج قديمة جداً وأخرى جديدة جداً , فكلا النوعين تعطيل للقوى العقلية وإن إختلفت ميادينها وأدواتها } إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ { الزخرف:23، ويستنكر القرآن جمود المقلدين وهو يهتف بهم إلى التحرر من اوهام التقليد } قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ { البقرة:170.
إن من المؤسف حقاً أن تتحول أمة العلم والبحث والتجربة إلى امة تغلب عليها الامية الهجائيه والثقافية وان تحتاج إلى من يشرح لها مدى حاجتها إلى العلم مع انها تتلو كتاب ربها الذي يمجد العلم في كل آن .
فنحن الآن الأمة الإسلامية نواجه منافسات حادة مركزة على الفكر خاصة عندما بدأ الغزو الفكر واحتلالها وانتصروا به وسموه بالنصر بلا حرب , فالاساس في اصلاح الفكر هو ان تكون في مستوى المواجه والمعرفة والرؤية الشاملة فهى العتاد الافضل بأيدنا ( [85]) .
ومن الأساس في الإصلاح الفكري الترحيب بكل الأفكار وتنوعها مهما يكن مستواها أي إطلاق الحرفية فيها , وهذا هو معنى المجتمع اللاإكراهي،ولاإكراه في الدين )
وصلاح الكون وجماله بالتنوع والتعددية , فلو كان كل مافي الكون على صورة الآخر المقابل ,( الجبال , الاشجار ، الازهار , الحيوان ..إلخ ).
فالمسلمون ليسوا بحاجة لكي يستعيدوا فاعليتهم إلى تكوين الدين من جديد أو تجديد الدين ذاته لكنهم بحاجة إلى الوعي المعرفي والمنهجي الذي يمكنهم من توليد الارادة والقدرة والعزيمة والفاعلية لتجديد مناهج الفهم وفقه التدين وإلى قدرة على تقويم مسيرة حياتهم العملية والسلوكية بأفكار قائمة على القاعدة العقيدية ومصادر التدين ……
التجديد لابد من ان يبدأ بتحقيق إنسانية الإنسان وبناء الامن الداخلي في ضمير الفرد المسلم لتأتلف فيها مدارك الإنسانية كلها ويتجاوز الإنسان بذلك ويلات الحيرة والاضطراب , وتنازع الافكار والمعتقدات والعواطف .

الخاتمة

الحمد لله، حمداً كثيراً على نعمه، والصلاة والسلام على نبيه محمد ( صلى الله عليه وسلّم ) ، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد.. وفي ختام هذا البحث اود ان اشير إلى أهم ما جاء فيه أومايستنتج منه هي :-
1-
المجتمع المسلم حالياً تنخر فيه عوامل فساد كثيرة تهدد كيانهوتقف حجر عثرة دون إصلاحه، وأخطرها الإعراض عن منهج الله تعالى .
2-
الذنوب مهلكات الأمم , فبعث الله الرسل ليخرجوا الناس من ويلاتهم، فأرسل الله موسى عليه السلام ليحمل رسالة تحرير المستضعفين من الطغيان السياسي وأرسل لوطاً لإصلاح المجتمع من الإفساد الخلقي والإنحراف عن الفطرة الإنسانية وأرسل شعيباً لإصلاح الفساد الإقتصادي وأرسل إبراهيم لأن يعيد وجهة العالم نحو عبودية الله , وهكذا محمداً ( صلى الله عليه وسلّم ) ليخرج الناس من عبادة العباد والدنيا لعبادة رب العباد .
3-
الإفتقار إلى الإصلاح، لأن هناك أخلاقية التخلي عن المثل العليا في المجتمعات , والتهرب من المسوؤلية في جميع المستويات وعلى الصعيدين الفردي والجماعي .
4-
فهم طبيعة العصر, هي الميزة للبحث، فعلينا أن نتفهم طبيعة العصر الذي نعيش فيه ، وأن ندرك حوائجه أيضاً.
5-
وجوب محاربة الفساد وأسبابه ووسائلهومنابعه ، والضرب على أيدي المفسدين أيّاً كانت مكانتهم.
6-
إبراز المعنى الحقيقي المطلوب من الصلاح والإصلاح , والكلام عن العلاقة بينهما والمقارنة بينهما وآثارهما ومايترتب عليهما صفات المصلحين ، وبيان مكانة الإصلاح وقواعده ومراتبه.
7-
مهمة الإصلاح مهمة جماعية ، ومن الخطأ إلقاء التبعة على حاكم، أو هيئة، أو جماعة ، بل لابد من تضافر كل القوى وتعاون كل الجبهات لتحقيق الاهداف المرجوة. وفي الختام فهذا مايسره الله تعالى لي بكتابته حول هذا الموضوع، فعسى أن قاربت بالبحث غاية يرضي القارئ الكريم ، فان وفقت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وإن قصرت فذلك جهد ما وصلت اليه معرفتي .


المصادر

1.
إبراهيم مصطفى وزملائه، المعجم الوسيط، دار الدعوة، إسطنبول، 1410هـ - 1989م.
2.
إبن تيمية ، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعيّة، دار المعرفة ، بيروت – لبنان، ط 4 ،1969م.
3.
إبن كثير ، تفسير القرآن العظيم، دارالحديث، ط 2 ، 1410هـ - 1990م .
4.
إبن منظور،أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، دار إحياء التراث العربي ، بيروت- لبنان ، ط 1 ، 1408هـ- 1988م .
5.
آل بو طامي ، احمد بن حجر، تطهير المجتمعات من أرجاس الموبقات ، دار الكتب القطرية ، ط 2، 1978م.
6.
الآلوسي ، روح المعاني ، العلاّمة شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، دار الفكر، بيروت – لبنان ، د. ط .
7.
البخاري، أبي عبدالله محمد بن إسماعيل ، صحيح البخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، ط1، 1400هـ .
8.
البدوي، رسالة الإصلاح، ط1، 1417هـ - 1997م .
9.
جولة في ذات المسلم ، خليفة عبدالله التونسي ، مكتبة البيان ، الكويت ، ط1، 1409هـ - 1989م.
10.
د. احمد الشرباصي، موسوعة أخلاق القران الكريم، دار الرائد العربية، بيروت، ط1، 1401هـ - 1981م.
11.
د. صلاح الصّاوي، الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر، مطبعة وزارة التربية، ط2، 1998م.
12.
د. عبدالكريم بكّار ، مدخل إلى التنمية المتكاملة، رؤية إسلامية ، دار القلم، دمشق ، ط1 ، 1420هـ - 1999م.
13.
د. محمد عمارة ، التقدم والإصلاح بالتنوير الغربي أم بالإصلاح الاسلامي، دار نهضة مصر ، د. ط 1998م.
14.
د. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دار الفكر، دمشق، ط4، 1418هـ - 1997م .
15.
د.خالص الجلبي، سيكولوجية العنف وإستراتيجية الحل السلمي، دار الفكر ، دمشق، ط1، 1419هـ - 1998م.
16.
السجستاني، أبي داود سليمان بن الأشعث، سنن أبس داود، دراسة وتقديم كمال يوسف، مركز الخدمات والايمان الثقافية، دار الجنان ، ط1، 1409هـ - 1988م.
17.
سيد قطب، في ظلال القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 7، 1391هـ - 1971م .
18.
شـذرات الذهب في أخبار من ذهب ، لأبي الفلاح عبدالحي بن عماد الحنبلي ( ت 1089هـ ) ، دارالفكر ، بيروت – لبنان، ( بدون رقم وتاريخ الطبع ).
19.
صلاح عبدالفتاح الخالدي ، هذا القرآن ، دار المنار للنشر والتوزيع، ط 1،1414هـ - 1994م.
20.
طه جابر العلواني، إصلاح الفكر الإسلامي، مدخل إلى نظام الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة إسلاميّة المعرفة، القاهرة، 1417هـ - 1996م.
21.
عادل الشويخ، مسافر في قطار الدعوة ،بدون رقم وتاريخ وسنة الطبع.
22.
عبدالكريم الخطيب، المسلمون ورسالتهم في الحياة، دار الكتاب العربي، ط1، 1402هـ - 1982م.
23.
عبدالله التليدي ، أسباب هلاك الأمم ، دار البشائر ، بيروت- لبنان، ط1، 1406هـ - 1986م.
24.
الغزالي ،أبي حامد محمد بن محمد ، إحياء علوم الدين ،دار الشعب، د.ط، د.ت .
25.
القرطبي، أبو عبدالله محمد بن احمد الأنصاري، الجامع لأحكام القران ( ت671 هـ ) تحقيق أحمد عبدالعليم- دار الكتاب العربي – مصر، ط3 – 1387هـ .
26.
ماجد عرسان الكيلاني ، أهداف التربية الإسلامية - في تربية الفرد وإخراج الأمة وتنمية الأخوة الإنسانية- المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 1417هـ - 1997م.
27.
مالك بن نبي ، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبدالصبور شاهين ، دار الفكر، بيروت، ط2، 1970م .
28.
الماوردي ،أبي الحسن، الأحكام السلطانية، دار الحرية ، بغداد، د. ط، 1409هـ - 1989م .
29.
محمد أبو زهرة ، المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، دار الفكر العربي، د.ط، د.ت.
30.
محمد احمد الراشد، المنطلق ، دار الأدب ، د. ت، د. ط .
31.
محمد الغزالي، مع الله ، دار العلم ، دمشق ، ط1، 1409هـ- 1989م.
32.
محمد باقر الصدر ، إقتصادنا، دار الفكر، بيروت، ط3، 1389هـ 1969م.
33.
النيسابوري، أبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري، صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، ط1، 1420هـ - 2000م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق