الاثنين، 17 يناير 2011

وظائف الرعاة


وظائف الرعاة  ..  بقلم: د. حسن المرسي
الإسلام دين النظام فقد جاء ليحكم الحياة من جميع نواحيها، وهو كذلك دين التناسق الذي جاء ليهتم بجوانب الحياة باعتدالٍ لا يزيد في جانبٍ على حساب آخر، وهو دين الشمول؛ حيث غطى الحياة كلها برحمته وتوازنه ونظامه ودقته فلم يترك شاردة ولا واردة إلا وله فيها قول وأمر ونهي. 
ومن كمال نظام الإسلام وتمام تناسقه وعظمة شموله أنه لم يجعل مجموعة من البشر تعيش بلا أمير يرعاهم وينظم شئونهم وتحتكم إليه في أمور دنياهم، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا عليكم أحدكم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا نزلت ببلد وليس فيه سلطان فارحل عنه..".
 ذلك لنعلم أن الإسلام لا يقر الفوضى، ولا يدع الأمة المسلمة بدون إمام، يقول الإمام أبو حامد الغزالي: "اعلم أن الشريعة أصل والملك حارس، وما لا أصلَ له فهو مهدوم وما لا حارسَ له فضائع"، فالحاكم أو الأمير أو الوالي أو السلطان أو الرئيس أو الملك، هو مسئولٌ بين يدي الله تعالى، وهو أجيرٌ عند الناس وعامل لديهم؛ لذلك فإن الإسلامَ أوجب للأمة أميرًا أو حاكمًا، وأوجب وأوضح مع ذلك وظيفته ومهمته.
ومن أبرز وأوضح هذه الوظائف والمهام للراعي على سبيل الإجمال ما يقوله الحسن البصري:
 "الحاكم كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق بها الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة ويحميها من السباع، ويكنها عن الحر والبرد، وهو كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغارًا، ويعلمهم كبارًا، ويكسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته، وهو كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها، حملته كرهًا ووضعته كرهًا وربته كرهًا، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارةً وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته وتغتم بشكايته، وهو وصي الأيتام.. وخازن المساكين.. يربي صغيرهم، ويعطي كبيرهم، وهو كالقلب بين الجوارح تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده".
 وعلى سبيل التفصيل مهمة الراعي ووظيفته كالآتي:
1- قضاء حوائج الرعية وعدم الاحتجاب دونهم: عن أبي مريم الأزدي- رضي الله عنه- أنه قال لمعاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم.. احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة"، فجعل معاوية رجلاً على حوائج الناس، فلا أبراج عاجية ولا حواجز ولا فواصل، وإنما اقترب من الرعية وحياتهم ومشاكلهم. 
2- النصح للرعية: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "ما من أميرٍ يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى سائل كل راعٍ عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيَّع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته".
 عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: "اللهم مَن ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقق عليه، ومَن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به"، وعن أبي يعلي معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجنة"، وفي رواية "فلم يحطها نصحًا لم يجد رائحة الجنة" (متفق عليه)
 لذلك قال عمر بن الخطاب حين ولي الخلافة: "أيها الناس.. قد وليتُ عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم وأقواكم عليكم وأشدكم اضطلاعًا بما ينوب من مهمة أموركم ما تولينا ذلك منكم".
 3- خطورة غش الراعي لرعيته: يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يسترعي الله تبارك وتعالى عبدًا رعيةً فيموت يوم يموت وهو لها غاشٌّ إلا حرَّم الله عليه الجنة"، وفي رواية "فهو في النار" (رواه البخاري ومسلم).
فما أشد أن يغش الراعي ويفسد ويدلس ويزور.. فما دخل الغش في أمرٍ إلا أفسده حتى تفسد الحياة كلها.
4- يقوم بحق الأمانة: عن بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته، والإمام راعٍ ومسئول عن رعيته.." (متفق عليه).
 5- العدل بين الرعية: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله.. إمام عادل.."، وإن الأمةَ لا تحتاج إلى شيء من الأخلاق أفضل وأكبر من احتياجها إلى العدل فبه تحيا الأمة وتشرق الأيام ويعلو الحق ويزهق الباطل.
جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: "لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان؛ لأن بصلاحه صلاح الأمة"، ويقول سفيان الثوري: "صنفان إذا صلحا صلحت الأمة، وإذا فسدا فسدت الأمة.. السلطان والعلماء"، ويقول الحسن البصري عن الإمام العادل: "الإمام العادل: قوام كل مائل، وقصد كل حائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، وهو كالقلب بين الجوارح تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده".
أبشر أيها الإمام العادل: فلكل إمام وحاكم وسلطان عادل أن يستبشر بكلام خير الخلق صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم"، وعن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحدٌّ يُقام في الأرض بحقِّه أزكي فيها من مطر أربعين صباحًا"
 نماذج من الشفقة بالرعية والعدل بينهم:-
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعدل ويطلب العدل حتى في الأب الذي يعطي العطية لأولاده.. لما رأى رجلاً يعطي أحد أولاده فقال: "هل أعطيت كل أولادك؟"، وعدل حتى في العواطف والمشاعر؛ فالقُبلة للولد لا بد أن يتساوى معه باقي الأولاد.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب المثل في العدل.. عندما وقف يصف الصفوف في بداية معركة بدر وضرب بعصا صغيرة كانت معه بطن الصحابي "سواد" فقال "سواد": أوجعتني يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: "هذه بطني فلتقتص مني.."، وكان منه ما كان.
الخلفاء والصحابة:
- عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتحسس فيسمع صوت أنين امرأة ومعها رجل فسأل فقال زوجها: هي في المخاض وليس عندها أحد يصلح شانها.. فيذهب عمر- رضي الله عنه- إلى زوجته (أم كلثوم) لتكون بجوارها، ويوقد عمر النار وينفخ فيها ليجهز للمرأة طعامًا وماءً حتى يتخلل الدخان لحيته رضي الله عنه.
- غضب عثمان بن عفان على غلامٍ عنده ففرك أذنه بأصبعيه فتألَّم الغلام فتذكر عثمان قصاص الآخرة فنادى عليه عثمان وجلس بين يديه وألحَّ عليه أن يقتص منه فكبر ذلك على الغلام فعزم عليه عثمان (أمره) فاضطر الغلام على كُرهٍ منه تنفيذ أمر الأمير.. فأمسك الغلام بإذن أمير المؤمنين عثمان وشدَّ عليه بإصبعيه، وأمر عثمانُ أن يشدَّ أكثر وأكثر على أذنه قائلاً له: "إن قصاصَ الدنيا أهون من قصاص الآخرة".
- يقول جرير بن عبد الله البجلي أن رجلاً كان مع أبي موسى الأشعري، وكان ذا صوت ونكاية في العدد (أي كان قويًّا شجاعًا)، فغنموا مغنمًا (أبو موسى والرجل) فأعطاه أبو موسى بعض سهمه ولم يُوفِّه حقه، فأبى الرجل أن يقبل حقه منقوصًا.. فجلده أبو موسى، وحلق شعره، فجمع الرجل شعره وذهب إلى عمر بن الخطاب ثم ضرب بشعره صدر عمر وقال: "أما والله لولا النار لصنعتُ بعاملك ما صنعت".. ثم حكى له ما صنع أبو موسى.. فكتب عمر إلى أبي موسى أن يُمكِّن الرجل من أن يقتصَّ منه إذا كان ما حدث صحيحًا.. فقدم الرجل بكتاب عمر.. فقال له الناس: اعفُ عنه. فقال: لا والله لا أدعه لأحدٍ من الناس.. فلما قعد أبو موسى ليقتص الرجل منه رفع الرجل رأسه إلى السماء ثم قال: "اللهم إني قد عفوت عنه"، لتتعلم الدنيا كلها من العدل.. وكيف يكون الحكم.
- وما قصة ابن عمرو بن العاص الذي سبقه القبطي منا ببعيد، وذهب القبطي لعمر.. ورد إليه اعتباره وقال له: "اضرب بن الأكرمين" لتعلم الدنيا أيضًا.
- وهذا اليهودي الذي هزَّ جميعَ أركانه عدلُ القاضي شريح، عندما حكم له ضد علي بن أبي طالب في الدرع، إلى غير ذلك من نماذج نحتاجها في عالمنا حتى يعم العدل وتنعم البشرية ويسود الحب وتتقدم البلاد ويسعد العباد.. ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: من الآية 51).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق