الأربعاء، 17 فبراير 2010

حتى لا يذوب الداعية في المجتمع


حتى لا يذوب الداعية في المجتمع
بقلم: أحمد صلاح
إذا كانت دعوة الإسلام دعوة منفتحة، تدعو للحوار مع الجميع وتقبل الآخر والتعايش معه، رغم اختلاف الأفكار وتنوع الآراء وحتى تعدد الديانات، فإنها في الوقت ذاته تحذِّر من الانجراف وراء ألفاظ وسلوكيات وعادات يلتقطها الداعية من هنا وهناك، ويحاول تطبيقها كنوع من التقارب والانفتاح، ومع الوقت وتكرار المواقف والأحداث، سيجد الداعية نفسه قد فقد شيئًا من الشخصية الإسلامية التي تستمد قوتها من الإسلام ذاته بعقيدته وتعاليمه وعاداته، وسيجد نفسه قد تجاوز الخط الفاصل بين أن يكون منفتحًا على الجميع مشاركًا لهم في مساحات الاتفاق والمناطق المشتركة، وبين أن يتأثر بسلوكهم وأفكارهم، وهنا تحدث مشكلة يمكن وصفها بالخطيرة، اسمها: (الذوبان في المجتمع).
 وعندما يذوب الداعية في المجتمع تصبح هويته مهددة، وتصبح شخصيته أضعف، وينتقل هذا الضعف تلقائيًّا إلى دعوته نفسها، فيصبح أقل مصداقيةً وأقل تأثيرًا وأقل نجاحًا.
 ورغم قلة عدد المسلمين في بداية الدعوة، ورغم أنه يمكن وصف كل المسلمين بعد مرور ثلاث عشرة سنة في مكة أنهم (أقلية مسلمة)، إلا أنهم كانوا من الحنكة والمهارة الدعوية والذكاء الاجتماعي والفهم لمضمون الرسالة وجوهرها، بحيث يظلون محتكين بالمجتمع متعايشين معه، يتعاملون في كل شئون الحياة في البيع والشراء والتواصل الاجتماعي؛ حتى الزواج (قبل أن تنزل التشريعات المحددة للزواج من غير المسلمين)، فكان الصحابي يعيش مع أب كافر وأم كافرة وأخوة كافرين، لكنه يبر والديه ويعامل إخوته بالحسنى، ويدعو أصدقاءه وأقاربه، ولكنه من قوة العقيدة والإيمان، ما يجعله لا ينساق إلى تصرف يتنافى مع إيمانه تحت أي مسمى أو مبرر، ومن الشجاعة وقوة الشخصية ما يجعله لا يذوب في مجتمع هو مسئول عن دعوته وتغييره والارتقاء به.
 والأصعب من ذلك هو موقف المسلمين المهاجرين للحبشة، والذين كانوا يتعرضون لغربة الأهل بالإضافة إلى غربة العقيدة، وفي الغربة يضعف الإنسان وتفتر همته وتتغير مفاهيمه وقناعاته، فيبدأ في قبول التنازلات واحدًا تلو الآخر، لكن السنوات الطوال في الحبشة، لم تنجح في أن تغير المسلمين، أو تشوه عقيدتهم، أو تبلبل أفكارهم؛ لأنهم كانوا يتذكرون دائمًا أنهم أصحاب رسالة إلى العالم، جاءوا ليغيروا الدنيا لا لتغيرهم الدنيا، وظلوا كذلك حتى أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة.
أنواع من الذوبان
لا ينتبه البعض للخط الفاصل بين الانفتاح على المجتمع والذوبان فيه، فيفاجئ من حوله، ويفاجئ هو نفسه، بأنه يكتسب سلوكيات وأفكار المفروض أنها لا تتفق مع دعوته وهويته، وربما تأخذ هذه الأخطاء الأشكال الآتية:
أولاً: الألفاظ
هناك فئات من المجتمع ضحلة الثقافة وبعيدة عن التدين، لديها هواية بين الحين والآخر أن تخرج على المجتمع بألفاظ غريبة، تهين الذوق واللغة العربية وتجرح الفطرة، وأحيانًا تخدش الحياء، وللأسف يأخذ جهابذة الفن هذه الألفاظ ليسوقوها عبر أفلام لا تقل ضحالة وتفاهة عن مخترعيها، لتخرج للعالم كله، فيسمعها الكبير والصغير، ونفاجأ أنها انطلقت في الشوارع كفيروس يصعب السيطرة عليه، وتنتقل هذه الألفاظ الغريبة من الفئات الضحلة الثقافة إلى الفئات المتعلمة من شباب الجامعات؛ حتى أنني فوجئت في إحدى المرَّات بكتاب يشبه القاموس، يحوي عددًا هائلاً من الألفاظ الغريبة التي يتناولها لشباب؛ حتى إنها لتصبح لغة جديدة للشباب لا يمكن أن تتحاور معهم بها، إلا إذا درستها وفهمت معناها.
إلى هنا يصبح الأمر ظاهرة سلبية ينبغي على الداعية أن يتصدى لها بثقافته وشخصيته، إلا أن المفاجأة المحزنة هو أننا نجد عددًا من الدعاة الشباب، ممن ينطق بهذه الألفاظ، ويتناولها في أحاديثه سواء مع هؤلاء الشباب أو غيرهم، بمعنى أنه لم يقر الأمر فقط، بل ساعد في انتشارها أيضًا.
وبمرور الوقت، سيجد هذا الداعية الشاب نفسه قد أعوج لسانه، وانحط مستوى مفرداته، وأصبح صعبًا عليه أن ينطق اللغة العامية المهذبة الرفيعة، التي لا تليق بداعية يجري القرآن على لسانه ليل نهار.
إن الله يرفع شأن الداعية إلى أقصى مدى؛ لأنه هو الذي يضيء طريق الناس ويبصرهم، يقول تعالى: ﴿... إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)﴾ ‏‏ ‏(‏الأحزاب‏).
ثانيًا: السلوكيات
لا يتصور أبدًا أن يقبل شاب ملتزم دعوة أصدقاء له يدعونه لفيلم في إحدى دور السينما مثلاً، أو الجلوس معه في مقهى مشبوه بدعوى التقارب والألفة بينهم، فهنا لا بد أن تظهر الخطوط الفاصلة، وأن تتضح بشجاعة ولطف في نفس الوقت، دون أن تقطع روابط الصداقة والود بين الأطراف.
كما لا يتصور أيضًا أن يشاهد أحد سائقي التاكسي الملتزمين وهو يتعارك مع زملائه السائقين وزبائنه من الركاب بنفس الألفاظ ونفس التصرفات التي يراها من زملائه غير الملتزمين.
وهنا يتنازل الداعية عن مبدأ الخيرية الذي شرف به الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها هي التي تحافظ على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حتى وإن تنازل عنه كل الناس، يقول تعالى: ﴿‏‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾ (آل عمران‏: من الآية ‏110‏)‏.
وربما يعد نموذج الزواج من النماذج الواضحة في الذوبان في المجتمع، فبعض الدعاة قد ينادي بتيسير الزواج على الشباب وعدم التحامل عليهم، إلا أنه عند التعرض لنفس الموقف، يجد نفسه يحاكي المجتمع بدلاً من أن يقدم نموذجًا حيًّا لمواجهة عادات أسهمت في مشكلة اجتماعية خطيرة.
ثالثًا: الأفكار
في عصر الفضائيات والسماوات المفتوحة والإنترنت، والعالم الذي تحول إلى قرية صغيرة، انطلقت الأفكار- كل الأفكار- بلا قيود أو حدود، وأصبح لزامًا علينا أن نمرر ما يرد إلينا من أفكار وبسرعة على الإسلام بأصوله وثقافته وحدوده، دون أن ننبهر بأفكار وافدة، قبل أن نغربلها وندرك تأثيرها وخطورتها، ولعل فكرة الحرية (رغم جمالها وموافقتها للإسلام)، والتي ضغطت بقوة على المجتمع العربي في العشر سنوات الأخيرة، والتي تدخلت فيها السياسة الأمريكية بشكل رئيسي، هي من أكثر الأفكار التي تثير الجدل والبلبلة، وهي فكرة عدم فهمها جيدًا في إطار الإسلام، وعدم دراستها بعلم وروية، سيجنح بنا إلى مشكلات أخرى ربما تعاني مجتمعاتنا منها الآن، خصوصًا أنها مجتمعات مكبوتة، لم تترب على الحرية، ولم تعرف أن لها ضوابط، وأن الله وضع حدًّا بين الحرية والفوضى، وأن المسئولية والواجب هما اللذان يحميان الفرد والمجتمع من هوس الرغبات اللانهائية التي لا تفكر إلا في (الأنا) وفقط.
كيف يواجه الداعية الذوبان في المجتمع؟
 على الداعية أن يتسلح بأسباب ثلاثة، تجعله قادرًا على التواصل مع المجتمع دون أن يـتأثر سلبيًّا به، وهي:
أولاً: الروح الإيمانية العالية
تمثل قوة الإيمان والاتصال بالله، الحصن الحصين ضد الذوبان السلبي في المجتمع، فالالتزام بالعبادات من الصلاة في جماعة وصلاة النوافل وقراءة الأذكار والورد القرآني وصيام السنن، هو الذي يعطي مناعة للمسلم ضد أي أفكار سلبية تفد إليه، فيسهل عليه مقاومتها بما لديه من رصيد إيماني يجعله يرى الله في كل شيء، ويجعله دائمًا على بصيرة بما يرى أو يسمع، ويرزقه الله الهداية فلا يضل ولا يشقى، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17)﴾ (محمد).
ثانيًا: قوة الشخصية
لا يمكن أن يؤثر الداعية فيمن حوله إلا إذا كان متمتعًا بشخصية قوية، لا تقبل التنازلات ولا تنقاد لأفعال خاطئة تحت دعوى الإحراج والخجل، أو تحت مبرر أن الكثرة تغلب الشجاعة، وقوة الشخصية لا تعني العصبية ولا المشاجرات المستمرة، بل تعني إبداء وجهة نظرك بثقة وهدوء، وعن علم وقدرة على الحوار، والتمسك بما تراه صحيحًا رغم ما تواجهه من ضغوط، وأن تُفهم الطرف الآخر بأن لديك خطوطًا حمراءَ في التعامل لا يمكن تخطيها؛ لأنها تخالف ما تؤمن به من أوامر الإسلام، وأن رضا الله مقدم لديك على رضا الأصدقاء، وذكاء الداعية يجعله يرسل هذه الرسالة لمن حوله في ود ولطف وهدوء، بما يحافظ على استمرار العلاقة بينهم، فلا يقطعها فيفشل في دعوته.
ثالثًا: العلم والثقافة
لكي تستطيع أن تتواصل مع المجتمع بكل أطيافه وتعدد آرائه، في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على هويتك وشخصيتك الملتزمة التي لا تقبل تهاونًا في حق الله، لا بد أن تتسلح بالعلم الشرعي أولاً، ثم تصقل هذا العلم بالقراءة الحرة في كل المجالات، والثقافة التي تجعلك تستطيع أن تقف على أبواب أي موضوع فتستطيع فتحه والحوار حوله بثقة واتزان، وهو شيء سيجعل الآخرين يقبلون آراءك حتى لو خالفتهم؛ لأنك تتحدث عن علم ودراية، فيحترمون اختلافك معهم في نفس الوقت الذي يستمرون في الاستماع إلى دعوتك دون ضجر.
قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي﴾ ‏(‏يوسف‏: من الآية‏ 108‏)‏.
إن الداعية الماهر هو الذي يصنع لديه مناعة تحصنه من فيروسات المجتمع، فهو كالطبيب الذي يعالج المجتمع من وباء منتشر، في نفس الوقت الذي يحرص فيه جيدًا على ألا يصاب بالمرض.
شكر الله للأخ الفاضل الأستاذ أحمد صلاح و نفع الله به ..اللهم آمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق